توازناتُ الرُعبِ على طريق اللاعودة
ولّى زمنُ الحجارة ؛ سلاح العزّل، ولم يعد يكفي توثيقُ مصطلح «انتفاضة» في قاموس «إكسفورد» كمنتجٍ عربيّ فلسطينيّ، في حسابات ثقل الإنجاز على الأرض. فنحنُ، اليومَ، أمام سلّة مفاهيم جديدةٍ وتوازنات استراتيجيّة، أُنتجت للتوّ، أهمّها على الإطلاق «توازنُ الرعب» مع الكيان الغاصب.
فبعد ستة أيامٍ تأكّد كلُّ «الواجمين» المترقّبين بصمتٍ مطبق، من أنّ ما يجري في فلسطين المحتلّة ليس مجرّدَ طفرة مقاومة، يعقبُها انكفاءٌ، بل هو حربٌ مجهولة المدى بفصول تصعيدٍ متواترة، أيْ ثمّة تكافؤ ؛ بل تفوقٌ مُذهل سطّرته المقاومة في فلسطين على الصعيد العملياتيّ العسكريّ، على الرغم من لجوء العدو لسلاح الطيران كملاذٍ يكاد يكون الأوحدَ والأخيرَ، بعد انكشاف هشاشةِ العامل البشريِّ الساقط معنويّاً.
وكانت «طوفان الأقصى» مناسبةً صاخبةً لإعلان تغيّر قواعد اللعبة، وظهور معطياتٍ، هي في الواقع صادمةٌ وقاهرةٌ، لكلِّ مَنْ استسلم لفكرة «الجيش الذي لا يُقهر».
فعلى الصعيد التقني ؛ فاجأت المقاومةُ الجميعَ بامتلاكها المعدّات ومهارات الاستخدام.
وعلى المستوى الاستخباراتيّ؛ أحدثت صدمةً ورضّاً عنيفاً للعدو من جراء الاختراق البارع الذي حصلَ، ولم تنفعْ معه لا تقنياتُ المراقبة المتطوّرة، ولا جدارهُم الفاصل، ولا قبّتُهم الحديديّة وكلّ التحصينات التي طالما تغزّلوا بها، وأطلقوا عليها مسميّاتٍ طنّانة، ثبت أن ليس لها منها نصيبٌ.
أما في البعد السياسيِّ؛ فكم هي أطنانُ الإحراج التي أوقعتْ فيها المقاومةُ الفلسطينيّةُ طيفاً واسعاً من دول حسمتْ حاضرَها ومستقبلها، وفقاً لمعطياتٍ، اتضح أنّها مزيّفة، أو على الأقل، ليست استراتيجيّةً، ولشدّ ما هو مخزٍ ذلك الصمتُ على ضياعٍ يخيّمُ على كثيرين اليومَ.
وهنا، على سبيل السخرية الصريحة، على الجميع أن يسألَ عن موقف أردوغان « صاحب الأكَشن التركيّ» الذي شغلَ شطراً من العالم بمسرحيّاته الفانتازيّة وزعمه الاستعراضيّ «الانتصارَ لغزّة» عندما كان يحضُّر لتنصيب نفسه «إمبراطوراً فذّاً»!!.
على نحوٍ عام.. نحنُ اليومَ أمام تحوّل تاريخيٍّ في مشهد مُزمن من الصراع مع الكيان، ما بعده لن يكونَ كما قبله، إطلاقاً، ولا على أيّ مستوى، لا في الداخل الفلسطينيّ، ولا في المضمار المحيط، وستؤسس المقاومةُ والمحورُ، عموماً، لآفاقٍ جديدة ستُبنى عليها ارتساماتٌ وإسقاطاتٌ مختلفةٌ على الأرض، كما ستُبنى عليها توازناتٌ إقليميّة، بل ودوليّة أيضاً، ولو بعد أجلٍ، ريثما يُنجز حسمٌ ينتظره بعضُهم، ولا نظنّ أنّ أيّ حسمٍ أو تسويةٍ ستحصلُ، يمكن أن تعود بـ«الروزنامة» إلى الوراء؛ لأن توازناً راسخاً فرض نفسَه عنوةً على الأرض، ولم يعدْ في الإمكان تجاهلُه، مهما حاول العدوُّ الاجتهادَ للاستدراك، ومهما أمعن في تدمير المدن وترويع المدنييّن، فالذعرُ الذي يجتاحُ المستوطنات هناك ليس أكثر ممّا يعتري ثكناتِ جيشهم وقادته.
اليومَ، يحاولُ العدو التهديدَ بتوسيع دائرة المواجهة باتجاه لبنان أو سورية، ويلوّح عبر استقدام «الترسانة» الأميركيّة بتحويل حربه إلى حربٍ كبرى مع دولٍ وقوى منظمّة، تغطّي سيناريوهات معدّة مسبقاً، ربما تكون خطرةً جداً، يبيّتها للداخل الفلسطيني. وهي مغامرةٌ، إنْ حصلتْ، ستكونُ المنطقةُ، وربما العالم، أمام خياراتٍ مصيريّةٍ بكلّ معنى الكلمة، وستدخلُ قوى مؤثّرة في المشهد الساخن عندما يتحوّلُ إلى مُلتهبٍ.
الحربُ قد تكون مديدةً..والصمودُ فيها هو العاملُ الأكثرُ تأثيراً وحساسيّةً، و التجاربُ السابقة كلّها تؤكد أن عدوّنا يخسرُ في مثل هذه الحروب..والصمودُ أبرز عنوانٍ في استراتيجيّة محور المقاومة، عموماً، يجبُ ألا يغيبَ عن ذهن كلِّ مَنْ يتصدّى لقراءة المشهد الراهن وأفُقه القادم.