زكي الأرسوزي أوّل من أنطق العربية فلسفةً
تشرين- راوية زاهر:
بقلم إسماعيل الملحم، صدر كتاب (زكي الأرسوزي) ضمن سلسلة أعلام ومبدعون عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وبين طياتهّ صفحات من نور تحكي سيرة حياة الأستاذ (زكي الأرسوزي).. هذا الرجل لوائي الانتماء، وقومي الهوى، وطني النشأة، فلسفي اللغة، ولد في الزمن الصعب في مدينة اللاذقية سنة ١٩٠٠م ، وتميّز منذ نشأته الأولى بذكائه واتّقاد سريرته، نشطت عائلة الأرسوزي وتميزت بقوميتها ووقوفها في وجه العثمانيين وسياستهم العنصرية، ودعا والده من خلال انتمائه إلى الجمعيات والنوادي إلى العدالة والمساواة والوقوف بوجه التتريك وسياسة الانتقاص من حقوق العرب التي انتهجها الاحتلال العثماني.
تعلّم الأرسوزي في إحدى مدارس اللاذقية ثم انتقل مع والديه للإقامة في أنطاكية في لواء إسكندرون حيث تابع تعليمه في ثانويتها، إلى حين اعتقال والده ونفيه إلى (قونية) في الأراضي التركية عام ١٩١٤ م، وهناك تعلّم التركية وبعدها، هاجر إلى بيروت وفيها أتقن الفرنسية ثم عاد إلى أنطاكية ليعيّن مدرساً لمادة الرياضيات..
ثم شغل الأرسوزي وظيفة مدير ناحية أرسوز، وبعدها أمين سر دائرة المعارف، ومنها أوفد إلى فرنسا ليدرس الفلسفة في جامعة السوربون، ما أتاح له الاحتكاك مع فلاسفة العصر والعودة متخصصاً في الفلسفة، التي أثّرت في تفكيره ووسعت من آفاق معرفته، ما ساعده فيما بعد على تطوير أفكاره القومية.
نُقل تعسفياً من عمله كمدرس من أنطاكية إلى حلب ودير الزور بسبب بث نشاطه الفكري بين الطلبة، ثم سُرّح من عمله بحجة نشر أفكار تتعارض مع سياسة الانتداب.
بعد ذلك انتسب إلى عصبة العمل القومي، وأسس في أنطاكية جريدة العروبة وكشف تآمر فرنسا وتركيا على لواء إسكندرون، وراح يبث روح المقاومة بين السكان كاشفاً خيوط المؤامرة وإعلاء صوته منادياً بالعروبة، ومدافعاً عنها وعن حق العرب بالحرية والعدالة.
زكي الأرسوزي الأستاذ والعروبي راهبُ القومية العربية وقديسها اعتقل وهو يدعو العرب إلى حشد قواهم للإدلاء بأصواتهم لصالح عروبة اللواء.. وقد أطلق سراحه بسبب مقاومة محبيه وهجومهم على السجن وتحريره.. هاجر الأرسوزي إلى العراق وعاد إلى دمشق وعاش بعوز شديد ثمّ تفرّغ لدراسة العربية ليكون بذلك منطلق تفكيره الفلسفي والقومي واهتمامه بما سمّاه عبقرية الأمة العربية بلسانها.
عومل زكي الأرسوزي رغم فكره العميق وقوميته الملتهبة ووطنيته الفذة معاملة لا تليق بمكانته ، ما حدا بمدرّسي الفلسفة في وزارة المعارف من كل المحافظات إلى كتابة عريضة لتذكير وزارة المعارف بوزن هذا المدرس وأهليته ومكانته الفكرية والوطنية والقومية.. حيث كان للأرسوزي مزاجه المتفرد في النقد: “نقد الحكام، نقد الممارسات، نقد الأحزاب والأشخاص”؛ ومعياره في الحكم على سلوك أي عربي إيمانه بالعروبة.
مؤلفاته
ترك الأرسوزي وراءه كنزاً معرفيّاً وسجلاً نضالياً ندر اجتماعهما عند واحد من الناس.. حيث كتب أنطون مقدسي في مشاركته في الموسوعة العربية مادة عن الأرسوزي جاء فيها: “الأرسوزي هو أوّل من جعل العربية في العصور الحديثة تنطق فلسفة. ” وكان له قائمة من الكتب والمقالات والآراء بالحياة الاجتماعية والفلسفية.. ومن أهم كتبه: “العبقرية العربية في لسانها، رسالتا الفلسفة والأخلاق، رسالة المدينة والثقافة، الأمة العربية، صوت العروبة في لواء إسكندرون، متى يكون الحكم ديمقراطيّاً، الجمهورية المثلى.. وغيرها الكثير.”
وتكريماً له جُمع تراثه الغني في ستة مجلدات صدرت عن الإدارة السياسية و وزارة الثقافة.. كما أقيم له تمثال في إحدى حدائق دمشق مسماة باسمه في حي المزرعة القريبة من ساحة السبع بحرات في دمشق.. ومن أهم تلامذته كان وهيب الغانم الذي رهن نفسه في حقل الطب لمداواة الفلاحين في قراهم النائية، والمفكر صدقي إسماعيل والشاعر سليمان العيسى وغيرهم الكثير. كما كان له باع طويل في الغوص في اللسان العربي ومقارنته مع اللغات الأخرى وبدائيته وأصوله الفطرية والطبيعية وغاص في عالم اللسانيات للغة والحروف صوتياً ودلالياً.
آمن بالقومية العربية وعراقتها وقدمها وتعمّق في مفهوم الأمة، غادرنا الأرسوزي وعلى كتفه نهج فلسفي وقوميّ وفكري أغنى به المكتبة العربية، رافضاً الإحباط وداعياً إلى التمسك بالعروبة وإغنائها بمعارف العصر، تحدى الاستعمار الفرنسي وناضل ضد سياسة التتريك والاعتداء على لواء إسكندرون وظلّ طول الوقت واضحاً وساخراً من كل موارب ومناصر للاستعمار ومنفذاً لمآربه.