أصلُها أمكنةٌ

وجد الإنسانُ أجوبة عن أسئلته منذ فجر الخليقة، ولم يتوان عن تصحيح هذه الأجوبة إذا ما اكتشف ثغرة فيها: كرويةُ الأرض، المدُّ والجزْر، الجاذبية، تتابعُ اللّيل والنهار، مواسم الزراعة والحصاد، خطوط الطول والعرض، وحين استعصت الأجوبة أوجدها كي يوقف حيرته ويضع نفسه موضع العارف: من أين يأتي الشعر؟ ومن ذاك الذي يغسل يديه فيتقاطر الذهب منهما ليُكتَبَ على صحائف تُعلّق على أستار الكعبة؟ لا بدّ أنه من وادٍ سحريّ سحيق فيه أسرار لا تبدو مخايلُها بوضوح أشعة الشمس وطرق القوافل! إنه وادي «عبقر»!
أُعيد الشعرُ بكل خصائصه الذهنية إلى «مكانٍ»، له اسم، وبعده سيأتي سؤال: من أين تأتي الرواية بلبوسها العام الذي يضم المسرحية والقصة؟ هنا النسيج مختلف، فلا تجريد، ولا خطفٌ عاطفيٌّ يشبه البرق أو هطول الشهب، بل بناء هندسي يحتاج إلى موادَّ مختلفة، وخلطات نوعية من علوم الواقع والتاريخ والنفس والاقتصاد والمجتمع والصنائع الشائعة، حيث مُحضت الروايةُ شرفَ مكانة علم التأريخ بذاته والروائيُّ مدائحَ تفوق المؤرخ الذي عدّ سارداً أو مسجّلاً ميكانيكياً للأحداث! أما حين عُرِّف أحد كتاب القصة بأنه لم يتلقَّ تعليماً مدرسياً ذا بال ومع ذلك أبدع في الكتابة الأدبية وصار من نجومها، فقد باتت هذه المعلومة تتقدم كلَّ تعريف له، وتضاف إلى صفاته الباهرة والاستثنائية التي تخطّت الواقع بكل ما فيه من التوقعات! وإذ مرّ بي كاتب، ولكم تمرُّ بنا مفاجآت على غير انتظار، لم يتخطّ المرحلة الابتدائية في دراسته، كانت ردة فعلي التلقائية: كيف كتبتَ النوع الصعب من الأدب وأنت بلا شهادة؟ في خاطري أن كل أديب هو صاحب شهادات وحسب المنطق ليس كل صاحب شهادات أديباً بالضرورة! ولأنني لم أقرأ ما كتب، بل صرتُ على موعد قراءة، ذهبت بعيداً في الذاكرة إلى أمكنة لم أضطر يوماً لدخولها، وفوجئت بلقاء كتاب مهمين كثيرين لم يحصلوا على تعليم نعدّه عالياً، خاصة في الجامعات، وكثير منهم نال جوائز عالية ورسخوا قدماً في عالم الأدب! أحدهم كان خرّيج معهد متوسط، وآخر لم ينل الثانوية، وثالث كان موظفاً في ديوان مؤسسة، ورابع ساعي بريد…
الرواية لا تأتي إذاً من وادٍ سحريّ غامض بل من حيازة معارف هي فوق صفوف المدارس ومدرجات الجامعات، لكنها أولاً وقبل كل شيء من الموهبة التي قد نضطر إلى نسْبِها مرة أخرى إلى مناجم غامضة لا تبدي معادنها الثمينة إلا للندرة من البشر!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار