حكاية الشغف المزمن للتشكيل السوري بذكرى الجلاء وأبطاله
تشرين- سامر الشغري:
لم يتفاعل جنس إبداعي مع الجلاء وأبطاله وأحداثه كما فعل الفن التشكيلي السوري وعلى مرّ أجيال متتالية، فتغلغل هذا الحدث التاربخي إلى صميم اللوحة والمنحوتة، وتجلى كقيمة سامية عالية ومقدسة في بعض الأحيان.
ولأن الحساسية والتماهي مع الواقع من أخص خصائص الفنان التشكيلي، كان من الطبيعي أن ينساق مع المعارك ضد المحتل الفرنسي، ومع أبطالها وشهدائها فقدمهم بصورة ملحمية كأبطال الأساطير وفرسان الزمن الغابر.
وبصورة مبكرة وبينما كان لا يزال التشكيل يحبو خطواته الأولى تجلى هذا التأثر في لوحات الفنان الراحل سعيد تحسين، بدءاً من لوحته عن معركة ميسلون التي رسمها عام 1932 والتي رغم بساطتها تصور البطل يوسف العظمة وهو يقود جنود الجيش السوري للصمود بوجه القوات الغازية، وصولاً إلى لوحته الشهيرة عن العدوان الفرنسي على حامية البرلمان السوري سنة 1945.
هذا في مجال الرسم أما في مجال النحت فكانت البداية مع التمثال الشهير للبطل العظمة وهو يشهر سيفه، ومن اللافت أن هذا العمل وكما روى الباحث الراحل شمس الدين العجلاني كان لنحات إيطالي صممه بمبادرة لمجموعة من المغتربين السوريين في البرازيل سنة 1937، ولكن التمثال الذي وصل إلى سورية في العام التالي، لم يتسنى عرضه في ساحة عامة بسبب الموقف المتعصب إزاء النحت في تلك الفترة، فوضع أمام مدخل أركان الجيش السوري.
ومن المثير للانتباه أنه بعد مرور سبعين عاماً على هذه الواقعة صمم نحات سوري هذه المرة هو ياسر الكردي تمثالاً جديداً للبطل العظمة أقيم في الساحة التي تحمل اسمه بمدينة دمشق، ولكن أثيرت بعض الاعتراضات حول وضعية وقوف التمثال وكأنه في حالة استعداد مقابل وضعية سلفه المندفعة.
وعلى صعيد الكم ولأن محافظتهم كان مهداً لكبرى الثورات السورية قدم فنانو السويداء عشرات الأعمال النصبية والزيتية، وكان لقائد الثورة سلطان باشا الأطرش النصيب الأكبر منها، من لوحات البورتريه التي رسمت له وفيها نجد أسماء مثل مروان جمول وحكمت نعيم ونبيه بلان وحسام الجمال وأيمن عقيلي وطنوس مقلشي، وهناك لوحة مثيرة للاهتمام لابراهيم فاضل وردة تصوره وهو يتحدث مع طفل صغير وكأنه يروي له ملاحم الثورة.
اللوحات الأخرى التي تفاعلت مع الجلاء وتضحيات الشعب السوري انتقلت إلى تصوير المعارك ضد الاحتلال وأبطالها، مثل لوحة معركة الكفر لفيصل عبيد حيث نرى بين الجموع المجاهد شهاب غزالي يطعن ببيرقه ضابطاً من جيش الاحتلال، ولا ننسى اللوحات العديدة التي رسمها لهذه المعركة الفنان ناصر سابق ومنها التي نجد جنود الاحتلال صرعى تحت سنابك خيل الثوار.
ولا تقلّ أعمال النحاتين أهمية في رصد نضال أبطال السويداء ضد الاحتلال، فالنحات الجولاني حسن خاطر صمم نصبين أحدهما في بلدة مجدل شمس المحتلة للأطرش وحوله ثوار ونساء وأطفال، والثاني في بقعاتا لأبطال الكفاح السوري وهم العظمة والأطرش والشيخ صالح العلي وإبراهيم هنانو وحسن الخراط، وصمم النحات شفيق نوفل عملاً بازلتياً ضخماً لسلطان باشا الأطرش يطل حالياً من ساحة رئيسة في مدينة السويداء.
وكان الشيخ صالح العلي محور العديد من لوحات ومنحوتات فنانين سوريين، فالفنان رامي جوهرة رسمه بلوحة زيتية وهو يرتدي ثياب الحرب وخلفه جبال الساحل الخضراء وكأنه يدافع عنها، وصمم النحات أيمن سليم تمثال روليف من الصلصال لهذا المجاهد وهو يمتطي صهوة جواده وقد أمسك بندقيته بيمينه، أما النحات إياد بلال فقد صمم منحوتة تطل حالياً من ساحة في مدينة طرطوس للشيخ العلي على صهوة جواد يتوثب للانطلاق.
ومن المنحوتات المثيرة للاهتمام للمجاهد العلي تلك التي صممها النحات علاء الدين حاطوم من السويداء، والتي يظهر فيها واقفاً في إطلالة مهيبة على مدخل مدينة الشيخ بدر مسقط رأس العلي.
تعاطي التشكيل مع ثورة الشيخ صالح انتقل إلى رفاقه، فالنحات علاء محمد صنع أكبر منحوتة بانورامية في العالم العربي على جرف صخري في قرية برمانة المشايخ بريف طرطوس للمجاهد خليل أحمد الخطيب أحمد أخلص أعوان العلي، ليذكرنا النحات علاء من خلالها بنصب جبل راشمور الشهير في أمريكا.
وإذا انتقلنا إلى الشمال السوري حيث كان البطل إبراهيم هنانو يقارع الاحتلال، فسوف نقف على مأساة كبيرة وفعل تخريبي حاق بالتمثال المبهر الذي صممه النحات بكري بساطة، عندما دمره إرهابيون متطرفون، غير مبالين بما لهذا العمل من قيمة وطنية وفنية.
استمرار هذا الوله الفني بنضال السوريين ضد الاحتلال حتى فناني اليوم رغم مرور سبعين عاماً على جلاء المستعمر ظاهرة يجدر التوقف عندها والإشادة بها، على أمل أن تنتقل عدوى هذا الوله ولاسيما الدراما والسينما لتجسيد سِيَر أبطالنا العظماء.