سلّوم حداد.. فارسٌ على صهواتِ خَيل الدراما
تشرين- علي الرّاعي:
عندما يأخذ دور بدوي يعيش محنة الثأر لأخيه؛ فهو يعيش الدور حتى النهاية، لدرجة لم أعد أتخيّل، أو أتصوّر (الزير سالم)، إلا سلوم حداد، وعندما يأخذ دور رجل دين في «عندما تشيخ الذئاب»، فهو يذهب في الحالة حتى النهاية أيضاً، لدرجة لم أعد أتخيّل رجل الدين المزيف إلا على شاكلة (الشيخ الجنزير).. وأظن أن مختلف إمكانات سلوم حداد تجلت في هذا العمل – عندما تشيخ الذئاب – قصة جمال ناجي، إخراج عامر فهد، هذا المسلسل الذي يُسلط الضوء على استغلال الدين والجنس لتحقيق غايات ومصالح شخصية، كما يتناول تفاصيل السلوك الإنساني في جوانبه النفسية والروحية والسياسية والاجتماعية.. ثمّ من ينسى شخصية «أبو نجيب» وخلاله جسد سلوم حداد البخل يمشي على قدمين في مسلسل (زمن البرغوث)؟!!.
لقد شكّل سلوم حداد ظاهرةً فنية في مشهد الدراما السورية، ورقمها الصعب الذي لا يُمكن تجاوزه أبداً، ويكفي وجوده في أي عمل تلفزيوني ليمنحه نصف نجاحه على الأقل.. سلوم حداد – الفنان السوري الأشهر – الذي كان لا ينزل عن صهوة حصانه، في «الزير سالم» حيناً، يغزو «بني مرة» على مدى أكثر من ثلاثين حلقة، مُعيداً تركيب صورةً أخرى لذلك البدوي العربي الذي بقي يُحارب قومه أكثر من أربعين سنة للأخذ بثأر أخيه الذي اغتيل غدراً من ابن عمّه؛ مشتغلاً على إعادة تلك الصياغة التي استقرت عليها الحكاية الشعبية، بعد أن «شلّحها» السيناريست الخبير ممدوح عدوان فستانها الأسطوري الذي ارتدته قروناً طويلة.
ثم كان أن تلوّن بالأسود ليؤدي دور «أبو زيد الهلالي» لكن هذه المرة بما استقرت عليه الذائقة والحكاية الشعبيتان ذاته، سلوم حداد؛ الذي أول ما لفت إليه الانتباه، كممثلٍ مُبدع يصعد بقوة ليأخذ مكانه في الصف الأول مع ممثلين سوريين آخرين، وكان ذلك في مسلسل «الخشخاش» الذي – ربما – يكون المسلسل السوري الأول، أو كان له قصب السبق في توجيه الأنظار لمشكلة خطرة تهدد مجتمعات العالم؛ وهي مشكلة «تعاطي المخدرات» وترويجها.. ومن يومها، وسلوم حداد، يُغني مشهد الدراما السورية بعشرات الأدوار التمثيلية، تنوعت بين الكاتب العاشق – كما في شخصية ضياء الراعي – في مسلسل الخريف إلى زعيم حارة شعبية، وغيرها تنويعات درامية لا تحُصى.
الفنان السوري حداد الذي يفرد تلك التنويعات، ويُضيف عليها الكثير في الموسم الدرامي 2023، ويأخذ مساحةً واسعة في أكثر من مسلسل، أدوار يبتعد فيها عن التماثل، وإن كان الرابط بينها خبرة فنية، عدتّه في تجسيد شخصيات كانت منذ قليل ميتة، أوغافية بين أحضان سيناريو ورقي، مُضخاً فيها الكثير من دمه، لتقول الحكاية بكامل صدقها الفني.
سلوم حداد الذي لايزال يُشعل الذاكرة منذ أكثر من موسمٍ درامي، أبرزها: الندم، خاتون، زوال؛ في الأول.. وفي (الندم) وهو المسلسل الذي اقتبسه حسن سامي اليوسف عن رواية بالاسم ذاته، وأخرجه الليث حجو، وخلاله يقوم حداد بدور أكبر تاجر لحوم في الشرق الأوسط، والذي صار كذلك من حادثة غريبة، وهو ابن حارة عشوائيات؛ الأمي المشرد في الشوارع، عندما كان طفلاً لا يتعدى العشر سنوات، وكانت صدمته عندما يجد من يطلب منه حاجةً، وهو المنبوذ على الدوام، وكان الطلب من امرأة له أن يذبح لها ديكاً ستقدمه طعاماً لزوارٍ حضروا فجأة، ولم تجد من يذبحه لها، فكان أن خرج هذا «المشرد» في وجهها.. تلك الحادثة الصادمة التي ستخلق منه تاجراً جباراً يُنشئ هذه الإمبراطورية التجارية.
أما في مسلسل (خاتون) الذي كتبه طلال مارديني، وأخرجه «المتخصص» في مسلسلات الحارة؛ تامر اسحاق، ويأخذ فيه سلوم حداد دور زعيم هذه الحارة، لكنه هنا؛ لم يخرج عما حفظته الذهنية والذائقة المحلية والعربية، وحتى في المعالجة الدرامية لما صار معروفاً في دراما كهذه، حارة دمشقية، وهي هنا حارة العمارة، والعلاقات بين أبنائها على خلفية مناوشات مع عناصر مخفر الدرك الفرنسي.. ويأتي الدور الأميز لسلوم حداد فيما جسدّهُ بشخصية الماشي على بركة الله في مسلسل (زوال)؛ كتبه يحيي بيازي وزكي مارديني، وأخرجه أحمد إبراهيم أحمد، وفيه يُجسد ضمير حارة في عشوائيات العاصمة.. كلُّ الإشارات تدل على أنها حي ركن الدين، يتناول المسلسل مكوّناً سوريّاً آخر لم تنتبه إليه الدراما السورية سابقاً، بعلاقات أبناء هذه الحارة مع بعضهم أولاً في ترتيب حيواتهم في هذا الحيز الضيق، وفي علاقاتهم مع مؤسسات الدولة.. وفي هذا الموسم، نجد سلوم حداد يُشكّلُ «ثنائياً» مُدهشاً مع فنان لا يقلُّ شأناً عنه، وهو الفنان باسم ياخور، في شخصيتين متنافرتين وعلى تضاد، وذلك في مسلسلين: خريف عمر (تأليف حسام شرباتي ويزن مرجى ، إخراج المثنى صبح)، والعربجي (تأليف عثمان جحا، ومؤيد النابلسي، إخراج سيف سبيعي).. للأسف لم تتسنَ لي متابعة الثاني حتى الآن لزحمة المسلسلات، لكن الأول يُقدّم من خلاله (روبن هود) على الطريقة السورية، إذ يجمع في هذه الشخصية المتناقضات من أقصاها إلى أقصاها، وبالحرفية والصنعة والمعلمية ذاتها التي عودنا عليها سلوم حداد في مختلف أدواره، فهو هنا القاتل المحترف، الخبير بالقانون الذي يُصفي الخارجين عليه، بخروجه هو نفسه على القانون، وهو العاشق والمصدوم عاطفياً من فشل حبٍّ قديم لايزال جمره تحت الرماد، العاشق الرقيق الذي قد ينهار في حال تمنعت حبيبته عن ملاقاته في موعدٍ غرامي.. شخصية رغم كل هذا الانفصام الذي تعيشه، فقد جسدها سلوم حداد بكلِّ هذه التراجوكوميديا، وبكامل البراعة.
في تلك الأدوار التي يُقدمها حداد يكشف خلالها هذا الفنان، أنه لايزال فارساً مبدعاً لم يترجل عن صهوة خيل الدراما، فاتحاً سهولاً وودياناً جديدة في مساحاتها الجمالية والإبداعية.