حكاية قرصنة موصوفة.. استئثار تركي بمقدرات حق الشعب السوري.. الجزيرة السورية بلا ماء ولا كهرباء نهائياً

تشرين- خليل اقطيني:
منذ أسبوع والجزيرة السورية برمتها (محافظتا الرقة والحسكة والجزء الشمالي من محافظة دير الزور) بلا كهرباء نهائياً.. وذلك بسبب توقف كافة العنفات في سد الفرات عن العمل، لأن معدل الوارد المائي لنهر الفرات عند الحدود التركية- السورية انخفض إلى ما دون الحجم الميت. ما أدى إلى تراجع مجموع الإيرادات المائية السنوية لنهر الفرات عند الحدود التركية- السورية إلى حدود 12.8 مليار م3. في حين كان معدل تلك الإيرادات في الفترة التي سبقت قطع المياه من النظام التركي يصل إلى 30.2 مليار م3، أي بفارق 19.4 مليار م3 تقريباً.
وحسب الدكتور عبد الرحمن أحمد عبد الرحمن المختص بالهندسة المائية وعميد كلية الهندسة المدنية في الحسكة سابقاً، يشكل هذا الفارق نقصاً خطيراً في الإيرادات المائية، التي لا يمكنها بهذه الحالة أن تؤمن الاحتياجات المائية لسورية، الأمر الذي يُلحق أفدح الأضرار بمشاريعها القائمة ويوقف خططها التنموية والخدمية.

ليس وليد الساعة
ويوضح عبد الرحمن: إن الاعتداء على حق سورية بمياه الفرات من قبل النظام التركي -والذي يرقى إلى مستوى العدوان- ليس وليد الساعة وإنما يعود إلى عقود خلت. فقد بدأ منذ وضع حجر الأساس لبناء “سد كيبان” في تركيا. ليبلغ هذا الاعتداء ذروته في كانون الثاني- يناير من العام 1990، عندما أوقف النظام التركي تدفق مياه الفرات إلى سورية بذريعة ملء “سد أتاتورك”، الأمر الذي شكل تهديداً كبيراً للأمن الاقتصادي والغذائي وحتى السياسي السوري، ذلك أن إنتاج الطاقة والري مرتبطان في سورية بمياه الفرات، فضلاً عن مياه الشرب التي تسقي الملايين من سكان الجزيرة السورية وحلب.

قطع مياه الفرات جريمة جديدة للنظام التركي بحق الشعـب السوري

وبيّن عبد الرحمن أن الحكومة السورية وقـّعـَت مع أنقرة صيف العام 1987 بروتوكولاً مؤقتاً، يلتزم بموجبه النظام التركي بمد سورية بأكثر من 500 م3 في الثانية، عند نقطة الحدود التركية- السورية. هذا البروتوكول كان مبدئياً ومحدد المدة بخمس سنوات، على أن يلحق به برتوكول دولي رسمي، يترك النظام التركي بموجبه لسورية 700 م3 في الثانية، في إطار اتفاقية دولية نهائية لتقاسم مياه الفرات بشكل عادل، توقع عليها تركيا وسورية والعراق. ولكن عندما حان أوان توقيع هذه الاتفاقية تنصّل النظام التركي من ذلك، لأنه يدرك أن موقفه ضعيف، كون الحكومة السورية تمتلك الأدلة والبراهين الفنية والقانونية التي تؤكد أن حصتها من مياه الفرات يجب ألا تقل عن 700 م3 في الثانية عند نقطة الحدود التركية- السورية. وذلك بموجب أحكام القانون الدولي التي تنص صراحة على “حق دول المجرى المائي أن تنتفع كل في إقليمها، بالمجرى المائي الدولي بطريقة منصفة ومعقولة”. من ذلك –مثلاً- ما نتج من قواعد عن مؤتمر هلسنكي المنبثق عن مؤتمر جمعية القانون الدولي، في العام 1966. لكن الاتفاق النهائي لتوزيع مياه الفرات لم يتم حتى الآن بسبب رفض النظام التركي اعتبار نهري الفرات ودجلة نهران دوليان. إذ يصفهما بأنهما “مياه عابرة للحدود”.
فلسفة تركية خاصة
وبشيء من التدقيق نجد أن النظام التركي يُقدِم على هذا الموقف المخالف للقانون الدولي انطلاقاً من فلسفة خاصة به. يرى عبد الرحمن أنها تقوم على أن “ما يمتلكه النظام التركي من مياه سيوفر له ثروة وطنية تعادل ما تمتلكه دول المنطقة من النفط”. الأمر الذي دفع الثالوث الأميركي- الصهيوني- الغربي للعمل على أساس هذه الفلسفة.
بدليل أنه كلما أرادت الحكومة السورية إنجاز موضوع التوزيع النهائي لمياهي الفرات ودجلة بين الدول الثلاث تركيا من جهة وسورية والعراق من جهة ثانية بشكل عادل ومنصف، يفتعل النظام التركي الخلافات التي تحول دون إنجاز هذا الموضوع، وفق المفهوم التركي لوضع نهري دجلة والفرات، والمتباين بشكل واضح مع المفهوم السوري- العراقي للوضع القانوني لهذين النهرين. حيث يصر كل من العراق وسورية على اعتبارهما “نهرين دوليين” خاضعين للقسمة المتساوية بين الجميع. عكس المفهوم التركي الذي يعتبرهما من “الأنهار العابرة للحدود” ليس إلا.

عبد الرحمن: تركيا أنشأت في حوض دجلة والفرات 22 سداً و19 محطة كهرباء ما قلّص تصريف النهرين إلى أدنى مستوى

ويلفت عبد الرحمن إلى أن الحكومة التركية بقيت حتى الآن لا تريد توقيع أي اتفاقية لتقاسم المياه مع سورية والعراق، وذلك بتشجيع واضح من الجهات الخارجية التي أشرنا إليها، والتي كانت تعمل بإصرار على خداع تلك الحكومة، من خلال إقناعها بأن تركيا يمكن أن تجد قوتها في المياه، وما دامت مصادر المياه فيها، فإن هذا يعني أنها هي صاحبة الحق في التصرف بها، فضلاً عن أن موقفها المتحكم بكمية المياه سوف يجعلها تتمتع بميزة الجار الذي يسعى الجميع إلى عدم إغضابه.
أما إذا ما تم اعتبارهما من الأنهار الدولية -أي ينطبق عليهما القانون الدولي- فإنها علاوة على خسارتها لتلك الميزات فإن مشاريعها المائية الخاصة بها -والتي تجد فيها دعماً كبيراً لمركزها السياسي- سوف لن تظهر إلى النور ما دامت قد وقّعت على اتفاقية لتقاسم المياه مع سورية والعراق.
ويكشف عبد الرحمن أن تلك (الجهات الخارجية) أقنعت تركيا بأنها بتنفيذها لمشروعاتها المائية، ستصبح دولة متحكمة بالأمن المائي والغذائي لدول المنطقة. فضلاً عن إمكانية استخدام المياه كثروة وطنية يمكن مبادلتها بما لدى الآخرين من ثروات. من هنا نفهم ما جاء على لسان الرئيس التركي الأسبق سليمان ديميرل في كلمته أثناء حفل افتتاح سد أتاتورك في تموز- يوليو 1992 بحضور رؤساء وممثلي 29 دولة، و100 دبلوماسي؛ حيث قال: “إن مياه الفرات ودجلة تركية، ومصادر هذه المياه هي موارد تركية، كما أن آبار النفط تعود ملكيتها إلى العراق وسورية. ونحن لا نقول لسورية والعراق إننا نشاركهما مواردهما النفطية، ولا يحق لهما القول إنهما تشاركانا مواردنا المائية، إنها مسألة سيادة، إن هذه أرضنا ولنا الحق في أن نفعل ما نريد”.

أضرار أكبر من أن توصف
ونتيجة لهذا الموقف بدت آثار الأضرار البالغة التي لحقت بسورية من جراء قطع النظام التركي لمياه الفرات أكبر من أن توصف في المجالات الزراعية والبشرية وتربية الحيوان، وكذلك على مستوى الطاقة. فقد تعطلت عنفات سد الفرات عن العمل، فانقطعت الكهرباء عن جميع المناطق التي يتم تزويدها بالكهرباء من السدود المقامة على نهر الفرات، في محافظات الحسكة والرقة وحلب، ما أثّر كثيراً على الحركة الاقتصادية في جميع أنحاء المنطقة. وانقطعت المياه عن التجمعات السكنية. من وجهة نظر الدكتور جاك مارديني رئيس جامعة الفرات سابقاً والمختص بالهندسة المائية. والذي يؤكد أن قطع مياه الفرات أدى إلى رفع مستوى التلّوث في روافد النهر إلى نسبة تجاوزت الحد المسموح به دولياً بــ 225 بالمئة. إذ برهنت التحاليل المخبرية أن نسبة التلوث في نهر البليخ -مثلاً- قد وصلت إلى 1800 ملغ في الليتر، بينما الحد الأدنى المسموح به دولياً هو 800 ملغ في الليتر. وهذا يؤكد أن قطع المياه في مجرى النهر، صاحَبَهُ تردّ خطير في نوعيتها بسبب زيادة نسبة الملوحة ونسب التراكيب الكيمائية الأخرى. والملاحظ أن هذا الأمر يزداد سوءاً مع استمرار النظام التركي باستخدام المواد الكيمائية في زراعة الأراضي ضمن “مشروع جنوب شرق الأناضول”، وإعادة تصريف نسبة كبيرة من المياه التي تستخدم في ري تلك الأراضي باتجاه المجرى الرئيسي للنهر. فلقد بات ذلك ينذر بكارثة بيئية خطيرة تهدد البشرية في الجانب السوري من حوض الفرات، إضافة إلى تهديده للإنتاج الزراعي والحيواني فيه.
ويُبيّن مارديني إن قيام الحكومة التركية بقطع مياه الفرات يلحق ضرراً جسيماً بحقوق سورية بهذه المياه. ما يؤكد خطورة هذا القطع على البيئة في حوض الفرات، وعلى الأراضي التي تشكل القسم الأعظم من الأراضي الزراعية السورية، التي تعتبر أغنى وأخصب الأراضي الزراعية في الجمهورية العربية السورية، وعلى سكان سورية الذين تشكل مياه حوض الفرات المورد الرئيسي لشربهم وحياتهم. ذلك أن نهر الفرات هو شريان حيوي تقوم على توفر مياهه حياة الملايين الذين يقطنون حوض النهر في سورية. والذين يبلغ تعدادهم حالياً نحو 10 ملايين نسمة، يعتمدون في حياتهم ومعيشتهم على مياهه بصورة رئيسة، من خلال زراعة نحو ملياري هكتار.
وهذا يُبيّن بما لا يدع مجالاً للشك أن الخطوة غير القانونية واللاإنسانية التي أقدمت عليها حكومات النظام التركي، لا تؤدي إلى حرمان سورية من حقوقها بمياه الفرات فحسب، وإنما إلى زيادة التلوث في حوض هذا النهر. وبالتالي إلحاق الضرر بالبيئة وحقوق الإنسان في تلك المناطق، نظراً للآثار السلبية السيئة على حياته وصحته وزراعته ومستقبله، وبناء على ذلك تطالب الحكومة السورية بوقف هذا العدوان.
فتّش عن “إسرائيل”
ويشدد مارديني على أن الحق بمياه الفرات موضوع لا تسمح سورية بالمساس به، ولا تقبل بالتنازل عن حقوقها فيه. وذلك لأن حقها بهذه المياه قائم وثابت ومستند إلى اتفاقات وتشريعات دولية، مسجلة لدى الأمم المتحدة. وترى سورية أن موضوع المياه هو موضوع قانوني ولا يمكن أن يكون ورقة سياسية.

وأن الطرف الوحيد المستفيد من توتير الأجواء العربية- التركية عموماً، والسورية- التركية خصوصاً، هو “إسرائيل” التي تسعى لاستثمار أي حالة توتر في المنطقة، في سبيل أهدافها ومخططاتها الأمنية والمائية والاقتصادية. كما ترى سورية أن الإقدام على تمويل السدود التركية من دول أوروبية يُلحِق أضراراً فادحة بالجانب السوري، على قاعدة تجاهل مواقف الدول المتشاطئة في النهر الدولي.

عبد الرحمن: أميركا وأوروبا و”إسرائيل” تدعم موقف النظام التركي من المياه للتحكم بالأمن المائي والغذائي لدول المنطقة

فقد أكد العديد من المسؤولين الأتراك أنهم حصلوا على الأموال اللازمة لتنفيذ “مشروع غاب” والبالغة 32 مليار دولار أميركي من مصادر عالمية، منها 2.9 مليار دولار على شكل هبة دعماً للمشروع، ومن بين هذه الدول: أميركا، كندا، إسرائيل، وفرنسا.
وبالإضافة إلى الاهتمام البالغ الذي حظي به “مشروع غاب” داخلياً وخارجياً على الصعيد التمويلي؛ يقول مارديني: إن أميركا وإسرائيل كانتا من أولى الدول التي أبدت اهتماماً كبيراً وملفتاً للنظر بهذا المشروع منذ بدايته، ولعل “مشروع ري المراعي” في منطقة “مشروع غاب” من أهم المشاريع التي استحوذت على الاهتمام، هذا المشروع الذي بدأ العمل بتنفيذه في الثالث من تشرين الثاني- نوفمبر من 2002. وكانت إسرائيل في مقدمة الدول التي أبدت حماساً بالغاً لهذا المشروع، لأنها تريد أن تضع لها قدماً في هذه المنطقة المهمة للغاية بالنسبة لها. والملفت للنظر في هذا الاهتمام والحماس الإسرائيلي أنه كان عليه تعتيم إعلامي كبير من جانب الإسرائيليين، الذين كانوا يسعون للمضي قدماً للتوغل في المنطقة من دون إشعار الآخرين بذلك، حتى تستحوذ على النصيب الأكبر من هذا المشروع، أي كي تستطيع أن تؤمن أكبر كمية من المياه لنفسها، قبل حدوث أي طارئ يقلب الأمور رأساً على عقب.
ويؤكد مارديني أن أهمية المشروع إستراتيجياً وضخامته، من الأسباب التي لفتت انتباه إسرائيل، وجعلتها تكثف جهودها في السنوات الأخيرة لوضع قدمها في هذا المشروع حتى يكون لها نصيب كما أسلفنا. وناهيكم بأهمية المشروع من الناحية الاقتصادية؛ فإن إسرائيل توليه أهمية كبرى من الناحية السياسية والاجتماعية أيضاً. ولهذا أرادت جمع المكاسب الثلاثة في خانة واحدة، لكي تصب في مصلحتها الخاصة.
ويلفت إلى أن اهتمام الحكومة الإسرائيلية بهذا المشروع، بدأ منذ الزيارة التي قام بها وفد من وزارة الزراعة الإسرائيلية في عام 1993 إلى الغرفة التجارية في مدينة “غازي عنتاب”. ووصلت الأمور بإسرائيل في شهر أغسطس- آب من عام 1996 إلى حد الطلب من تركيا شراء أراض في منطقة “مشروع غاب”، بهدف تعزيز مكانتها في المنطقة من جهة، وفتح الباب للموساد للتوغل فيها من جهة ثانية، حتى تكون لها عين تراقب الأحداث عن كثب أولاً بأول.
ويكشف مارديني أن إسرائيل كانت تدير السيناريوهات من خلف الكواليس، وتحوك الخطط السرية في تركيا للتمركز في منطقة “مشروع غاب”، فالخطة الإسرائيلية بدت واضحة؛ فهي بدأت من نهر النيل، ووصلت الآن إلى نهر الفرات.
ويشير إلى نقطة أخرى في غاية الأهمية لا يمكن التغافل عنها، هي أن إسرائيل داخل اللعبة الإرهابية؛ فهي تريد أن تكون تركيا والعراق وسورية منشغلات بالمشكلة الأمنية، حتى يتسنى لها أن تسرح وتمرح في المنطقة من دون إذن، وتحقق الأهداف التي تسعى إليها.
ومن خلال ذلك أخذ النظام التركي قروضاً من إسرائيل لتنفيذ “مشروع غاب”، وإسرائيل بدورها لم تبخل بذلك؛ بل قامت بمنح النظام التركي القروض بمنتهى السهولة. ولعل السبب وراء السخاء الإسرائيلي هو الحصول على المياه، والتحكم بها من أجل الضغط على سورية والعراق.
ويكشف مارديني أن “مشروع غاب” تم تصميمه بأيدي خبراء إسرائيليين, منهم خبير الري “شارون لوزوروف”، والمهندس “يوشع كالي”. أما المشروع التركي الثاني مشروع “سد أورفة” فقد شرعت تركيا ببنائه بمساعدة مالية من إسرائيل.
ويُبيّن أن هذا السد يستطيع حبس مياه دجلة والفرات لمدة 600 يوم، ما يعني تجفيف مياه النهرين تماماً. وبذلك أصبحت إسرائيل الشريك الفعلي في هذا المشروع الحيوي الذي يعد عصب الحياة في تلك المنطقة.

مارديني: الحق بمياه الفرات موضوع لا تسمح سورية بالمساس به وهو موضوع قانوني ولا يمكن أن يكون ورقة سياسية

ويكشف مارديني أيضاً أن 67 شركة ومؤسسة إسرائيلية تعمل في “مشروع غاب” منذ عام 1995، وتقوم بشراء الأراضي على ضفاف نهر “مناوغات”، الذي تشتري إسرائيل مياهه من تركيا لتلبية احتياجات المستوطنات اليهودية. وتقوم مؤسسة “مشاو” الإسرائيلية للتربية والتعليم بنقل التكنولوجيا الزراعية، وإنشاء وإدارة الحقول إلى المزارعين اليهود في هذه المنطقة الواسعة في جنوب شرق تركيا.

ونظراً لأن “مشروع غاب” الواقع بالقرب من الحدود الجنوبية الشرقية لتركيا، يُلحِق أفدح الأضرار بسورية والعراق، كونه يؤدي إلى تدنٍ كبير بمناسيب المياه الواصلة إليهما. وبالتالي تدمير الأراضي الزراعية وتصحرها، ويؤدي إلى إغلاق محطات توليد الكهرباء المقامة على نهري الفرات ودجلة في هاتين الدولتين. كما يؤدي إلى نفاد مياه الخليج في شط العرب.
يشدد مارديني على أن تنفيذه لا يتطلب الحصول على الموافقات القانونية الدولية فقط، بل يجب أيضاً الحصول على موافقة سورية والعراق؛ لكن على الرغم من ذلك، مضى النظام التركي بتنفيذ المشروع من دون الحصول على الموافقات القانونية اللازمة من المجتمع الدولي ودول الجوار.
كما قام هذا النظام بإنشاء سدّين جديدين على نهر الفرات وعلى مقربة من الحدود التركية- السورية، هما سدّ “بيره جك” وسد “قرقاميش”. اللذان يتيحان للنظام التركي التحكّم شبه المطلق بمياه النهر.

لا علاقة للعوامل السياسية بقضية المياه
الأمين العام المساعد لاتحاد المحامين العرب المحامي عبد العزيز جاويش أكد ما ذكره الدكتور جاك مارديني، ولاسيما قوله إن “موضوع المياه هو موضوع قانوني ولا يمكن أن يكون ورقة سياسية” فقال: بالفعل لا علاقة للعوامل السياسية في القانون أو في الواقع بقضية المياه. وعليه أكدت سورية مراراً وتكراراً ضرورة اقتسام المياه الدولية اقتساماً عادلاً. فقد بدأت المفاوضات بين تركيا من جهة والعراق وسورية من جهة ثانية لاقتسام مياه نهر الفرات منذ العام 1962، إلا أنها لم تؤدّ إلى التوصل لاتفاق نهائي وذلك بسبب رفض الجانب التركي, وعدم اعتباره نهري الفرات ودجلة “نهرين دوليين” إذ يصفهما بأنهما “مياه عابرة للحدود”.
ويؤكد جاويش أنه يغيب عن ذهن الحكومة التركية أن هذا الادعاء لا يعني بأي حال من الأحوال أن هذين النهرين غير خاضعين للقواعد القانونية الخاصة بالأنهار الدولية. هذه القواعد التي تسمي النهر الذي يجتاز أكثر من دولة بالنهر “التعاقبي”. فقد اعتمدت المنظمات الدولية مصطلح “الأنهار التعاقبية” في اللجنة السادسة (القانونية) للأمم المتحدة، كما اعتمدت تعريف مقرر لجنة القانون الدولي للمجرى الدولي بكونه المجرى الذي تقع أجزاؤه أو عناصره المعنية في دولتين أو أكثر (الوثيقة. SR 44 Par 10 A.c.6).
ولا يخفى أنه بعد أن حظي استغلال مياه الأنهار الدولية في الأغراض غير الملاحية بدور متزايد، نشأت بمرور الزمن قواعد عرفية تنظم ذلك الاستغلال، لكي يكون بطريقة يمكن أن تقدم أكبر الفوائد الممكنة إلى مجموعة الدول المشتركة فيها، كما تصدت للموضوع لجان وهيئات ومعاهد دولية رصينة، ويمكن القول إن القاسم المشترك لأسس التنظيم القانوني الدولي المعاصر، ينعكس في قانون استخدام المجاري المائية في الأغراض غير الملاحية الذي اعتمدته لجنة القانون الدولي، وأحالته إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للسير في إجراءات إقراره (الوثيقة A/CN.4/L 492 المؤرخة في 17 حزيران 1994) فقد بيّنت اللجنة في تقريرها حول المشروع أنها عكست القواعد القانونية الدولية والعرف الذي استقر عليه التعامل بين مختلف دول العالم في مجال تنظيم استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية.

مارديني: “مشروع غاب” التركي من تصميم خبراء إسرائيليين وتعمل فيه 67 شركة إسرائيلية

ويوضح جاويش أن المراد من المشروع المذكور هو تعريف المجرى المائي الدولي بكونه “المجرى المائي الذي تقع أجزاؤه في دول مختلفة” والواضح من المشروع أيضاً حق دول المجرى المائي بأن “تنتفع كل في إقليمها، بالمجرى المائي الدولي بطريقة منصفة ومعقولة، وتوجب عليها التعاون في حمايته وأهميته”. وتوجب المادة الثانية عشرة على دول المجرى المائي الدولي قبل أن تقوم أو أن تسمح بتنفيذ تدابير مزمع اتخاذها يمكن أن يكون لها أثر سلبي جسيم على دول أخرى من دول المجرى المائي، أن توجه إلى تلك الدول إخطاراً بذلك في الوقت المناسب، مصحوباً بالبيانات والمعلومات التقنية التي تمكّنها من تقويم الآثار المحتملة لتلك التدابير على حقوقها.
ويضيف: إن مؤسسة القانون الدولي في دورتها المنعقدة في سالزبورغ العام 1991 وضعت القواعد الدولية التي تحكم التصرف بالأنهار الدولية، فأقرت أن لكل دولة الحق باستخدام مياه الأنهار الدولية التي تجري في أراضيها ضمن القيود التي يفرضها القانون الدولي. فلا يحق لأي دولة أن تقيم منشآت هندسية أو تستثمر مياه المجرى المائي والحوض المائي، بحيث تحدث تأثيراً ضاراً على استعمال المياه نفسها في دول الحوض، إلا بناء على اتفاق سابق أو تعويض عادل.
كذلك لا يحق لأي دولة إقامة منشآت على النهر أو استخدام مياهه دون إبلاغ مسبق لدول الحوض.
أما الأكثر تفصيلاً -يتابع جاويش- فهو ما كان قد وصفه مؤتمر هلسنكي المنبثق عن مؤتمر جمعية القانون الدولي، في العام 1966، عندما وضع العديد من القواعد لذلك، أبرزها “لكل دولة تشترك في حوض مائي دولي الحق في الحصول على حصة عادلة ومعقولة من المياه”.
كذلك حددت الأمم المتحدة الشروط العامة لتقسيم مياه النهر الدولي في مؤتمر للمياه عقد العام 1977.

مخالفة واضحة لمبادئ القانون الدولي
وبالإضافة إلى الأحكام والقواعد القانونية الدولية العامة المشار إليها أعلاه، يتحدث جاويش عن قواعد أخرى وأحكام خاصة بتنظيم استخدام مياه نهري دجلة والفرات، لابد من التذكير بها، ومنها المادة 109 من اتفاقية لوزان المعقودة بين تركيا ودول الحلفاء بتاريخ 14 تموز- يوليو 1923. وكذلك المعاهدات التي عُقِدَت بين تركيا ودول أخرى مثل الاتحاد السوفييتي السابق واليونان وبلغاريا، في مجال تنظيم استخدامات الأنهار الدولية المشتركة بينها والمشابهة لوضع نهري دجلة والفرات كنهرين دوليين، وقد أشير في تلك المعاهدات إلى استلهام قواعد القانون الدولي ذات الصلة ومبادئ حسن الجوار. فقد اعترفت تركيا نفسها في أكثر من معاهدة أن “النهر التعاقبي” هو نهر دولي تنطبق عليه القواعد القانونية الدولية الخاصة بالأنهار، كما جاء في ديباجة المعاهدة الموقعة بين بلغاريا وتركيا في 23 تشرين الأول- أكتوبر 1968 والتي أصبحت نافذة في 26 تشرين الثاني- نوفمبر 1971.

جاويش: القانون الدولي يعطي الحق في الحصول على حصة عادلة ومعقولة من المياه لكل دولة تشترك في حوض مائي دولي

كما أن البروتوكول المؤقت الموقع عام 1987 بين تركيا وسورية والمسجل لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة أصولاً بتاريخ 1 حزيران- يونيو 1993 والذي أعطى لسورية 500م3 /ثا، ألزم تركيا بواجب التوزيع النهائي لمياه الفرات، إذ إن كمية المياه المذكورة أعلاه تم تحديدها بانتظار التوزيع النهائي. الأمر الذي يشكل اعترافاً صريحاً بالصفة الدولية للنهر. حيث ورد ذكر “توزيع الفرات” مرتين على الأقل في هذا البروتوكول.
وبناء على ما تقدم يؤكد جاويش أن رفض الجانب التركي للتوزيع النهائي لمياه الفرات مخالفة واضحة لمبادئ القانون الدولي، لجهة التوزيع العادل والمنصف لمياه هذا النهر بوصفه مجرىً دولياً، ولجهة عدم التسبب بأضرار جسيمة للدول المتشاطئة على هذا النهر، وانتهاك لمبادئ حسن الجوار المتفق عليها في القانون الدولي.

رؤية غريبة من نوعها
ومما تقدم نجد أن الحكومة التركية اكتشفت بخصوص تقاسم مياه الفرات مع سورية “أن نصوص القوانين والمواثيق والشرائع الدولية التي تنظم الاستفادة من الأنهار الدولية المشتركة، لا تناسبها، فقررت استبدالها بنصوص أخرى من صنعها”.
aqtini58@gmail.com

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار