مواجهةٌ مع الوَهم
الانكسارُ التنمويّ أخطرُ بكثيرٍ من النتائجِ المباشرةِ للحروبِ بجولاتها القصيرةِ والمديدةِ، وهذه حقائق، لاستنتاجاتٍ متسرعةٍ، بل لعل التسرّعَ ألاّ نرى هذه الحقيقةَ الموجعةَ.
بالفعل يبدو تعطلُ التنميةِ أخطرَ من الدمار المرئيّ، الذي غالباً ما يقع الماديُّ منه فحسب في المجال الفيزيائي للرؤيةِ، وأغلبُ الظنّ أن رؤية البُعدِ الثالثِ والعميقِ لأشكال التوتُر، هو ما أنتجَ مسمى “الكارثة” الذي نتداولهُ للدلالة على حجم الخراب.
من هنا قد يكون من الضروري لنا، بلورة ماكينةِ إحصاءٍ ودراساتٍ احترافيةٍ، للقيمة النقدية و”القيمُ النقديةُ أقرب إلى العقل الحسّيّ” للفاقد التنمويّ جرّاء بؤر التوترِ المقيمة التي يحرص الغرب على استبقائها في هذا الشرق، لاسيما الأوسط منه، ونجزمُ بأن الأرقامَ ستكون كفيلةً بيقظة شعوبٍ بأكملها، وربما ثورتها الانتقامية من كل ماهو أميركي وحتى غربي، خصوصاً إن قسمنا أرقام فواتِ المنفعةِ والضياعات التنمويةِ في كلّ دولةٍ على عدد سكانها، لأننا متيقنون من أن الأرقام ستكون صادمةً وغير متوقعة.
مؤسفٌ و محبطٌ أن تكون منطقة الشرق الأوسط بقعةً متأخرةً تنموياً في حسابات النسبة والتناسب مع ثرواتها بكل أشكال الثروة، أي ماتحت الأرض وما فوقها، والسببُ الأولُ حالة التوتر المقيمة، والمستبقاةِ بشكلٍ ممنهجٍ ومدروسٍ عبر أدهى و أخبث مراكز الأبحاث الاستراتيجية و الاستشارية القريبة من أصحاب قرار إشعال فتائل النار حيث تقتضي منظومة المصالح.. وربما سيراجع نفسه كلّ من يستهجن مثل هذا الرأي، فيما لو غاص في معايير وروائز التخلف، أعمق قليلاً من قشور التكنولوجيا المستوردة، ومظاهر الترف الأجوف والمستورد الذي يفاخر به حائزو التيار الراجع من الثروات.
العقلاءُ ممن لم تأخذهمْ رعونةُ المشهد بعموميته يتساءلون، على قلتهم، هل سنبقى في هذه المنطقة “رهائن” لأميركا وأوروبا الغربية..؟
وهل بالفعل علينا انتظار “فسحات” لن تأتي لنتفرغ قليلاً للتنمية؟
وثمة من يسألُ أيضاً ماهو أصعب وأكثر تعقيداً.. وقد تحتاج الإجابة عليه إلى جرأةٍ أولاً، وتفكيرٍ عميقٍ ثانياً وهو: ماذا عن الاستثمار في المخاطر.. ألم تسمعوا بهذا المصطلح؟؟
أوروبا الغربية ذاتها انتعشت اقتصادياً، وأوقدت ثورتها الصناعية على إيقاعات حروبٍ داميةٍ وأحداثٍ عاصفةٍ، لم يستطع الهروب منها فردٌ أو مؤسسةٌ، فهل علينا نحن أن نستسلم لنظريات أُنتجت هناك تزعم أن “رأس المال جبان”..؟ هل نبدو واقعيين ونحن نحاول التماهي مع مقولات اليأس و تجسيدها واقعاً رغماً عن أنفسنا وإرادتنا فيما لو استنهضنا ما بقي من إرادة..؟
ألم نستنتج أن بلدان منشأ أصحاب نظرياتٍ كهذه، رفضوها ولم يعودوا يعترفون بها، بعد أن اقتنعوا أن الأموال لم تـُخلق بتاتاً للاكتناز، بل للاستهلاك و الإنفاق وتوليد متواليات الإنماء الاقتصادي والاجتماعي والمجتمعي بكل مساراته، فلماذا توقفت العقول في هذا الشطر من العالم، وأحجمت واستسلمت، حتى الجبن، لفرضية “جبن رأس المال”؟
الشعوبُ الإفريقيةُ بدأت باليقظة والتحرر من السطوة الغربية، والفرنسية غالباً، وتنبهت إلى أنها تبيع ثرواتها بأوراق فرنكاتٍ مستنسخةٍ لا قيمة لها، خارج مضمار المستعمرة الواحدة..
هي يقظةُ عقلٍ ليست صاخبةً، لكن المهم أنها يقظة.
نحن في سورية ربحنا حرباً صعبةً بجولاتٍ متقلبةٍ وطويلةٍ.. وانتصرنا، ولا بد أن نلتفت إلى انتصارٍ تنمويٍّ بذات الإصرار الذي كان سر انتصارنا.. وقد آن الأوان لننزعَ من عقولنا ما أصبح “وهم أزمة”، فمن عادة فصول الظروف الصعبة أن تترك ما هو أشبه بـ”الفوبيا”.. فوبيا على شكل ذرائعَ وهيئةٍ ذرائعيين، من هنا تبدأ جولات المواجهةِ الجديدةِ مع الإحباطِ والوهم.