رحيل “د. نزار عيون السود” مترجم رواية”ليس للحرب وجه أنثوي”

تشرين-نضال بشارة:

يبدو أن هذا العام عام الخسارات الفادحة في حياتنا الثقافية، فها هو نجم آخر من نجومها يرحل، إنه الدكتور نزار عيون السود الذي كان يعمل بصمتٍ ودأبٍ على ترجمة الكتب الأدبية والعلمية من اللغة الروسية، فحصاده فيها أكثر من أربعين كتاباً. ولعل المفارقة الأولى التي نلحظها في سيرة حياته، أنه بدأ مشواره بالترجمة من الفرنسية، ولم يبلغ بعد أكثر من 17 سنة وهو ما زال في الثانوية، كان مغرماً باللغة الفرنسية ومتفوقاً بها، ومعجباً بالشاعر الفرنسي جاك بريفير من خلال مجموعته الشعرية “حوارات paroles” وكان مثل كل الشباب والمراهقين من هواة الشعر الرومانسي، ولعلها كانت أول ترجمة لبريفير للعربية.

من الفرنسية للروسية

لم يكن الراحل د. عيون السود يفكر بالترجمة كمشروع يرافقه مدى حياته، أعجبته القصيدة فترجمها ونشرتها له مجلة “الخمائل” الأسبوعية الأدبية التي كانت تصدر في حمص في الستينيات. وهو ابن حمص ومولود فيها 1945، وقريبه الشاعر عبد السلام عيون السود الذي رحل مبكراً في عمر الثانية والثلاثين. وولعه باللغة الفرنسية دفعه للتسجيل في قسم الأدب الفرنسي بعد نيله الثانوية إلاّ أن ظروفه المادية لم تسمح له بالسكن في دمشق لمتابعة الدراسة، وأخذته لمنحىً آخر حين فاز بمنحة لدراسة المكتبات والوثائق من وزارة التربية فأرسلته لموسكو. ظل طوال حياته يعمل بهدوء وصمت بعيداً عن الإعلام نائياً بنفسه عن الاستعراض، رغم أهمية الكتب التي ترجمها. وقد عمل في مهنة التدريس، فهو يحمل أيضاً الدكتوراه في علم النفس الاجتماعي وكانت رسالته بعنوان “نشوء وتطور الفكر النفسي – الاجتماعي عند العرب” التي أصدرها في كتاب عام 1996، وكان مديراً للمكتبات بجامعة دمشق ثم مديراً للشؤون الثقافية، ودرّس في الجامعات السورية وجامعات عربية، وترجماته جلّها في ميدان الأدب، عدا عن مؤلفات له في مجال علم النفس وعلم الاجتماع.  والراحل من المترجمين الذين إذا لم يكن مقتنعاً بالفائدة والمتعة التي يقدمها الكتاب للقارئ لا يقدم على ترجمته، فهو كما كان يقول: أنا أترجم، وأضع نصب عيني القارئ، مهتماً بالحاملين: الفكري والفني معاً فيما أقدّم له.

المرأة في الحرب

قال لنا في حوار سابق لهذه الصحيفة عن دوافع ترجمته لرواية “ليس للحرب وجه أنثوي” الحائزة صاحبتها جائزة “نوبل” سفيتلانا أليكسييفيتش: تميّزت الرواية بحديثها عن دور المرأة في الحرب، على لسان المرأة نفسها، وبحوارٍ مع كاتبتها، وهو الدور المهم في جميع الحروب، والذي لم يلق أي اهتمام أو تغطية أدبية، ولا سيما أن الرواية تتحدث عن المرأة في الحرب، والكاتبة امرأة – فالحديث من المرأة عن المرأة – وهذا يجعل من الرواية شفافة صادقة، صريحة، جريئة، يندر أن نجد مثلها في روايات الكتّاب الرجال. أما عن أسباب ترجمته كتاب “شخصية دوستويفسكي”، وضرورة قراءة رواياته لكل من يريد أن يصبح روائياً بحكم مقدرة دوستويفسكي على رسم أعماق شخصياته بما أنه ـ على حد اعتبار فرويد ـ الوحيد الذي سبقه إلى اكتشاف أعماق النفس البشرية، قال الراحل عيون السود: هذا الكتاب مفيد جداً لعشاق ومحبي روايات دوستويفسكي وللباحثين في أدبه. فهو يعرفهم على شخصية هذا الكاتب العظيم المعطاء، الذي كتب خلال عقد واحد ونيف من السنين أروع الروايات العالمية الخالدة، وما عجز عن تأليفه كتّاب كبار خلال نصف قرن. فهو، أول من غاص في أعماق النفس البشرية، وشخصية هذا الكاتب تقدم فائدة كبيرة للكتّاب والروائيين، وتبين لهم الجهود الجبارة التي كان يبذلها في نشر كل رواية من رواياته.

أدب العدسة المكبّرة

وكان الراحل عيون السود أكثر ما يهمه من الترجمة، نشرُ الكلمة الجيدة المفيدة، الصادقة، التي تلقى قبولاً واستحساناً عند القارئ، وتحقق له إشباع رغبته في المعرفة وتذوّق الأدب. فعند حصول قبول واسع من القراء لكتاب أو عملٍ ترجمه، ويجد حاجة لنشره من جديد، يسعى لإصدار طبعة ثانية منه، فلديه أكثر من عشرة كتب ـ تأليفاً وترجمة ـ أعاد نشرها في أكثر من طبعة، ومنها مسرحية “الجزيرة القرمزية” للكاتب ميخائيل بولغاكوف، التي نالت حضوراً واهتماماً لدى بعض المسرحيين في أكثر من بلد عربي، وتم تجسيدها على خشبات المسارح. كما اهتم الراحل بالأدب الساخر، لأنه جنس أدبي راق، في نظره، وعظيم التأثير على القارئ، إنه أدب العدسة المكبرة، الذي يكشف للقارئ عيوب المجتمع، ويزرع الفكاهة في نفسه والابتسامة الساخرة على وجهه، وقد صدر له كتابان حول هذا الموضوع ” الأدب الروسي الساخر”، و”القصة القصيرة الروسية الساخرة”. ورغم كل انشغاله في الترجمة وكل ما أنجزه فيها لم يتفرّغ لها بل مارسها كهواية إلى جانب ممارسته التدريس في جامعة دمشق وجامعات الوطن العربي على امتداد ثلاثين عاماً.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار