في منتصف سبعينيات القرن الماضي برز فجأة اسم كاتب مصري كتب رواية عن الحرب لفتت إليه أنظار النقاد والقراء، وما لبثت أن تحولت إلى فيلم سينمائي أدى أدواره كبار النجوم! وكنت أحوم حول أعمال الكاتب الأخرى مشبعةً بالانبهار الذي غَشِيَني مع تلك الرواية فلا أجد ما يبهر، لكنني أعالج خيبتي بفكرة أن كل ما سبقها كان «تخميراً» للعمل الناضج الذي أوصله إلى تصنيفٍ متقدم ضمن أهمّ مئة رواية عربية معاصرة!
من حسن الطالع أن عالم الثقافة رحيب وفيه من يضع الأعمال الأدبية في ميزان دقيق يتجاوز أزمنة اشتداد الرياح باتجاه واحد، لأن ناقداً محترفاً أخذ الرواية من عصف الدعاية وأشار إلى أصلها الإسباني وكاتبها الذي عاش في قرون خلت! عندها وجدتُ تفسيراً للطفرة الروائية عند ذلك الكاتب الذي لم يتجاوزها قط! ولم تتكرر «الحالة» مع غيره من كتاب مصر فحسب (لكونهم الأكثر شهرةً وإنتاجاً) بل تقدَّم المشهدَ كاتبٌ برازيلي واسع الانتشار، كثيرُ التداول بسبب رواية باهرة تُرجمت إلى لغات عدة وأُخرِج أصلُ روايته العربي وهي الرواية نفسها التي وضعته تحت أضواء الشهرة كما رواية الكاتب العربي المصري، وما سمعتُ تفسيراً لكلا الروائيّيْن عن هذا «التخاطر» لكون الحروب تتشابه في تفاصيل ويلاتها أو أن المغامرة البشرية كان أوَّلُها البحثَ عن الكنوز في البر والبحر!
بصرف النظر عن الجدل الذي أحدثتْه السرقات الأدبية بكل أسمائها المبتكرة: «تناص» أو «تلاصّ» أو «تأثر» أو «تخاطر» لأن هذا الموضوع هو جزء حيٌّ من الفضاء المعرفي والثقافي، وله خبراؤه الذين يفتحون لنا بوّابات على أشياء قد تفوتنا بسبب عدم المعرفة، بصرف النظر عن هذا ورغم انتقال المسألة بلا ضوابط إلى مستخدمي وسائل الاتصال الاجتماعي التي أتاحت فرَصَ «التخاطر» لكل راغب، نجد أنفسنا أمام سؤال: -لماذا لم تكن هذه الظاهرة موجودة في عصور الثقافة الإنسانية الذهبية التي أسست لكل ما نراه اليوم من إبداع؟ لماذا لم نرَ طحالب تتسلق على «أبي الفرج الأصفهاني» في أغانيه رغم أننا نستمتع بعقد «ابن عبد ربه الأندلسي» الفريد وكلا الكاتبين اعتمد أسلوب التأليف نفسه ؟ لماذا بقيت الملاحم الإنسانية مثلَ كنز لا يُمسّ يقف أمامه الكاتب متهيّباً ولا يجرؤ على ادّعاء أنه أضاف إليه جوهرة مهما كانت صغيرة الحجم؟
البشرية تتحلّل شيئاً فشيئاً من القواعد الصارمة لبناء الإبداع، وتجد من يمضي في هذا التحلل بمنطق إن الموج عالٍ، وسيخفي في ضجيجه حقيقة الأغنية التي تصدح ولا بأس في أن تستمرّ هذه الأغنية لتبدو أنها ابنة المغني الذي «يتخاطر» مع الطبيعة في رضاها وغضبها!
نهلة سوسو
123 المشاركات