الكتب على رفوف المكتبة كلها في الضوء وتحت البصر، لكنها لن تحظى قطُّ بالاهتمام نفسه حين لحظة الرغبة أو الحاجة للقراءة! هناك فوق المزاج الذي ينمو مع السنين أسباب أخرى تجعل من بعض الكتب في”الصفوف الخلفية” ويا لها من لحظة كاشفة حين يقع أحدُها باليد وتعصف بالنفس أعاصير أضعفُها الندم ومحاسبة الذات على ما أضاعت، وكم ضيّعَت هذه الحرب الظالمة من اتجاهات كنا نسلكها بمنتهى السلاسة، نتريّض في الأمكنة والأفكار والكتب، ففي تلك “الصفوف الخلفية” عثرت على كتاب لصدقي إسماعيل عنوانه “العرب وتجربة المأساة” ولن أتوقف عند اسم الكاتب العلَم ولا عند شكل الكتاب بغلافه الأزرق السماوي الرائق ولا عند الوشم الزخرفي الذي صُمّم لوحةً كُتب فيها “سلسلة آفاق ثقافية” في أعلى الغلاف، بل عند التنويه في أسفله “الكتاب الشهري” وتحته رقم 1.
الكتاب صادر عن وزارة الثقافة، وتصدَّرته مقدمة تقول: “نافذة ثقافية أخرى للقارئ العربي ليطلّ من خلالها على إبداع قديم نجدّد نشرَه لأن مضمونه لا يزال راهناً، وفي هذا إعادةُ اعتبار لمبدعين استشرفوا المستقبل بخطوطه العامة من دون أن يتمكنوا من العيش فيه جسدياً…” وفي ختام المقدمة: “…آفاق ثقافية لقاء دوريّ شهري تؤكد الوزارة من خلاله رسالتها في خدمة القراء كلّهم، موفّرة لهم الكتاب الجيد في معارف وفنونٍ متنوعة بسعرٍ معقول ومضمون ثمين!” وبعد ذلك جاء في الكتاب تعريفٌ بـ”صدقي إسماعيل” وأعماله المهمة ولعلّ المصباح الأشد وهجاً في هذا الكتاب هو تاريخ إصداره عام 2003 في حين كانت طبعتُه الأولى عام 1963.
انقطعت عندي هذه السلسلة ولا أعلم ماذا صدر بعد رقم (1) من كتب كانت وزارة الثقافة تحرص على تنويعها بكل ما أوتيت من إمكانات مادية وفكرية بين التأليف والترجمة من دون أن تدير ظهرها للتراث الغنيّ ووراء هذا أعلامٌ معاصرون لم يطفئ هدوء مكاتبهم تلك الجذوة التي أشعلها أعلامنا عبر العصور، وما كان هذا الكتاب قد وقع في يدي، حين تساءل أحد المديرين أمامي عفو الخاطر: -ماذا أختار للطباعة؟ مجموعة قصصية لكاتب رائد واحد أجددها، أم قصصاً لكتاب من مرحلة واحدة كالسبعينيات مثلاً وأريد جامعاً لها غير الحقبة الزمنية؟ أعجبني جداً هذا السؤال رغم أنه لم يجد جواباً عنه لأن الجواب سيأتي بعد حين وأجد كتاباً جديداً بين يدي قد يكون في “الصفوف الخلفية” إلى حين لكنه سيخرج إلى الضوء ويقول لي: “من الإجحاف أن تصنفي الكتب بتراتب مكاني كرواد المسارح أو المحافل لأن كل كتاب هو في الصفوف الأمامية، لا شيء بعده ولا شيء قبله!”.
نهلة سوسو
123 المشاركات