الأخطاء الطبية مناورات لكسب المال أم دعاوى إقصائية؟ اختصاصيون يلمّحون إلى تداخل المفاهيم.. والنقابة تتعهد بحماية الطبيب وإنصاف المريض
تشرين-بارعة جمعة:
دخول مفاجئ وبحالة إسعافية،تتبعه فحوص طبية استباقية،هو ملخص المشهد الطبي الذي طغى عليه الكثير من السلوكيات الخاطئة لدى البعض، أودت بحياة الكثير، نتيجة التعاطي الخاطئ معها، من قبل أطباء أو ممرضين وصفوا بالأقل خبرة واهتماماً في ميدان العمل الطبي، ما استدعى طرح الكثير من التساؤلات التي لامست بيئة العمل، وأثارت البلبلة في الأوساط الاجتماعية الأقرب لهذه السجالات غير المنتهية بتقديم المبررات، والتي لا تزال حتى اليوم رهن الإجراءات القانونية في وصف الخطأ وتحديد ماهيته وأبعاده.
تعاطٍ خاطئ
رعاية صحية سليمة واهتمام بالمرضى، خطوات أشبه بدائرة الأمان للمريض والطبيب في آن معاً، وكل ما يحدث خلاف ذلك هو بمنزلة الخطأ، ما دفع البعض لتعميم ثقافة الخطأ الطبي لكل حالة وفاة داخلها، والتي وفق تقديرات الطبيب “محمد سلمان” تعود لضعف الكفاءة أو الخبرة من الطبيب الممارس نفسه، أو من الفئات المساعدة له.
الهجرة المكثفة التي تشهدها صفوف الأطباء هي الأكثر تأثيراً في ازدياد الأخطاء الطبيّة
إلّا أن ما يتم الحديث عنه ضمن هذا السياق بات شائعاً بكثرة على مستوى العالم ولا يقتصر على واقعنا المحلي برأيه مسجلاً ما يقارب الـ98000 حالة وفاة سنوياً في أمريكا، في وقت مازلنا فيه نفتقر إلى قانون خاص بالمسؤولية الطبية في سورية برأيه، ما انعكس على المرضى سلباً، بفقدانهم الثقة بمن بقي من أطباء عرفوا من ذوي الخبرة في البلاد.
كماعدّ سلمان الهجرة المكثفة التي تشهدها صفوف الأطباء هي الأكثر تأثيراً في ازدياد هذه الأخطاء، وتحول المريض إلى حقل تجارب في نظر المشافي، مع انعدام الحس بالمسؤولية من المخطئين أنفسهم، ما يجعل التركيز على مبدأ منح رخص مزاولة المهنة الطبية من جهة رسمية ضرورياً برأيه، بما يتفق مع المبادئ والمعايير الراسخة في الطب.
خلط المفاهيم
من الواجب التفريق بين ما يسمى خطأ طبياً والمضاعفات الطبية التي يمر بها المريض بعد أي عمل جراحي
كما أنه من الواجب التفريق بين ما يسمى خطأ طبياً والمضاعفات الطبية التي يمر بها المريض بعد أي عمل جراحي، التي لا تزال الأغلبية بعيدة عن إدراكها حسب توصيف سليمان لواقع العمل، فما يحدث للمريض من مضاعفات هي خارج سيطرة الطبيب وإن تقيَّد والتزم بجميع المعايير الطبية، حيث إنه لا تخلو الأدوية التي يتم صرفها من قبله من هذه المضاعفات التي ستسبب مشاكل للمرضى أيضاً، من دون إغفال عدم رضا الطبيب وشعوره بالضيق إزاء حدوثها.
فالخطأ غير مقصود، وربما هو اجتهاد غير موفق وتسرع بالتقييم والإجراءات من الطبيب نفسه أو من الفريق المساعد له أو من نتائج التحاليل أو الأشعة، فيما يبقى الطبيب المتهم الأول، كما أن ما يثار حول إعطاء إبرة “الديكلون” من دون إجراء اختبار الحساسية منها، لا يتضمن توصيات طبية بها برأي الدكتور في اختصاص الجراحة العظمية “محمد سلمان”، كما أن ما يجهله الكثير هو أن أدوية الحساسية من الممكن التحسس منها أيضاً، لذا فمن المفترض إجراء هذا الاختبار لأي شيء يُعطى عن طريق الوريد.
شكاوى بالجملة
وفي العودة لما تم طرحه والحديث عنه من عقوبات بحق الأطباء المخطئين، أبدى سلمان استغرابه من اعتبار الدعاوى ضد الطبيب جنائيَّة، وكأن الطبيب تقصد الأذيَّة، فيما تعدها كل دول العالم مدنيَّةً مع تعويضات مادية، مطالباً النظر بهذا الأمر من مبدأ تغيير القانون، تماشياً مع ما يتم العمل به في دول أخرى، واعتماد التأمين ضد أخطار المهنة، لتولي هذه القضايا.
لم يتم حتى اليوم وضع ضوابط أخلاقية وقانونية للحد من الأخطاء التي أصبحت شبه يوميَّة وحديثَ الصحف أحياناً
إلّا أنه بالرغم من التقدم التكنولوجي والعلمي في مجال الطب، لم يتم حتى اليوم وضع ضوابط أخلاقية وقانونية للحد من الأخطاء، التي أصبحت شبه يوميَّة وحديث الصحف أحياناً، وأروقة المحاكم أحياناً أخرى، حسب توصيف المحامي “أحمد حبابة”، ما حوَّل الأخطاء الطبية من مشكلة مهنية غير محصورة بالكادر الطبي إلى مشكلة مجتمعية.
ويتزامن هذا الأمر مع اعتراف وزارة الصحة بها، والإشارة له في تقرير أكد وفاة أم سورية يومياً نتيجة الإهمال وضعف الخبرة داخل المشافي، مشيراً إلى تقديم 10 دعاوى شهرياً في دمشق و700 شكوى في سورية، في حين لا تزال الاحصائية تفتقد الدقة.
رؤية قانونية
كما عدّ الاتجاه القانوني في سورية أن مسؤولية الطبيب تجاه مريضه هو التزام ببذل العناية، ما يحمِّله بذل قصارى جهوده الصادقة المتفقة مع أصول وقواعد الطب المتبعة، فيما تتم ملاحقته وفقاً للمادة 66 من القانون رقم 16 لعام 2012م الخاص بنقابة الأطباء في سورية، بالاستناد إلى شكوى أو إخبار خطِّي من الجهة المتضررة، أو من الطبيب الذي يرى نفسه موضع تهمة غير محقة، لتبقى العقوبة بحق المخالف مسلكية.
وفي المقابل، تبنَّى المشرِّع السوري وفقاً لتوضيحات “حبابة” مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلّا بنص قانوني، وكرَّس ذلك في المادة 29 من الدستور، آخذاً بمبدأ براءة المتَّهم حتى يُدان بحكمٍ قضائي مبرم وفقاً للفقرة الأولى من المادة 28 من الدستور، كما كفل في الفقرة الرابعة من المادة نفسها حق التقاضي وسلوك سبل الطعن والدفاع أمام القضاء.
وتناول قانون العقوبات ضمن المادة 182 توصيف الفعل المرتكب في ممارسة حق دون إساءة استعماله بأنه لا يعد جريمة، في حين نصَّت المادة 189 من القانون نفسه على أن توصيف الخطأ يكمن في حال صدوره عن فعل ضار، نتيجة الإهمال أو قلَّة الاحتراز أو عدم مراعاة الشرائع والأنظمة، فيما أخذت المادة 190 من قانون العقوبات أيضاً الجريمة غير المقصودة، بأنها تكون سواءً لم يتوقع الفاعل نتيجة فعله أو عدم فعله من المخطئين، وبأنه كان باستطاعته أو من واجبه أن يتوقعها وسواءً توقعها فحسب بإمكانه تجنبها وعليه يلاحق الطبيب في حال ارتكابه الخطأ الطبي أمام القضاء الجزائي حسب النتيجة الجرمية، فيحاكم أمام محكمة صلح الجزاء في حال التسبب بالإيذاء للمريض، وأمام محكمة بداية الجزاء في حالة تسبب إهماله وفاة المريض، وفي حال ارتكابه القتل القصد يلاحق أمام قاضي التحقيق ثم قاضي الإحالة، تمهيداً لمحاكمته أمام محكمة الجنايات، ويلاحق الطبيب المخالف بدعوى الحق العام وبإمكان المتضرر أو وليُّه الادعاء شخصياً أو تقديم شكوى، وبذلك تحرك النيابة العامة دعوى الحق العام، وتدَّعي على الطبيب المسؤول عن الخطأ الطبي.
تطوير الخبرات
وباتت مسألة التعميم في شيوع هذه الأخطاء عالمياً الأكثر تناولاً لدى الأغلبية، بما فيهم نقابة أطباء سورية ممثلة برئيس فرع دمشق للنقابة الدكتور “عماد خليل سعادة”، الذي أيَّد عبر تصريحه لـ”تشرين” ما جاء في حديث الدكتور “محمد سلمان” فيما قدمه من إحصاءات شملت أمريكا، ليؤكد خسارة بريطانيا لـ30 ألف شخص سنوياً متأثرين بهذه الأخطاء.
فالطب مهنة علمية تقدم خدمة إنسانية، كما تناول المرسوم التشريعي رقم 16 لعام 2012م واجبات الطبيب بعدة فقرات.
كما عد “سعادة” إغفال الطبيب القيام بعمل مُخالف للسلوك الطبي العادي والمألوف وعدم الاهتمام والتبصر بحالة المريض بمنزلة الخطأ الطبي، فيما للتماشي مع البروتوكولات العلاجية المعتمدة وتطوير الخبرات لاستخلاص طرق أكثر نجاعة واعتمادها كمرشد علاجي واستبدال طريقته مع الالتزام بأصول المهنة، هو من واجبات الطبيب برأيه، ليبقى اعتماد الخطأ والحكم به من أطباء ذوي معرفة طبية عالية وقادرين على التمييز بينه وبين الاختلاط الطبي الناجم عن مرض أو مشكلة صحية أخرى.
أكثر ما يواجه الطبيب اليوم حدوث تأثيرات طبية بالتزامن مع أخذ الاحتياطات اللازمة ليتم الحكم له بإعطاء المبرر مع حدوث الاختلاط
ولعلّ أكثر ما يواجه الطبيب اليوم- برأي سعادة- هو حدوث تأثيرات طبية بالتزامن مع أخذ الاحتياطات اللازمة، ليتم الحكم له بالإعطاء المبرر مع حدوث الاختلاط، فيما تبقى أسباب الخطأ برأيه مقترنةً بالجهل والإهمال وعدم التركيز واللامبالاة وعدم القيام بالفحص السريري، يضاف لذلك سوء التعليم ونقص الخبرة، حيث إن بعض الحالات تستوجب فريقاً طبياً أيضاً، فيما تسهم ساعات العمل بزيادة الأخطاء أيضاً، والتي اتجهت من خلالها الكثير من الدول المتطورة لتأمين الطبيب شرط العمل ضمن ساعات محددة.
إجراءات نقابية
وما يترتب على الطبيب المخطئ ينطبق على غيره من المخالفات القانونية، لتتم إحالته للمجلس المسلكي الذي يترأسه قاضٍ بمرتبة لا تقل عن رئيس محكمة بداية، وبناء عليه تتخذ العقوبات المسلكية بحقه، والتي تتراوح بين تنبيه من دون تسجيل، وتأنيب أمام المجلس المسلكي وغرامة مادية مع احتمالية منع مزاولة المهنة لفترة محددة أو منع بشكل نهائي.
ووفقاً للشكاوى المقدمة لفرع دمشق حسب تصريح سعادة، فقد تجاوزت الـ70 حالة معظمها تم التعامل معها، بعد التدقيق بتفاصيل الحالة مع الرجوع للأضابير في المشافي، لكون المريض راجع أكثر من مكان، واتخاذ القرار بتريث ودقة شديدة، والذي قد يصل لإيقاف العمل لفترات محددة حسبما تقتضيه المخالفة ، مع الإشارة إلى ورود شكاوى عولجت بالتوصل إلى حلّ بين الطرفين، كما تبيَّن في معظمها بأن الهدف غايات مادية فقط.
وفي النظر لأهمية هذا الملف، الذي تصدر اهتمام النقابة حسب تأكيدات رئيس فرع دمشق الدكتور عماد سعادة، ولاسيما في مؤتمرها الطبي القضائي الأخير، بجهود النقيب والأعضاء وبالتعاون مع رؤساء الفروع والنقابات في سورية، الذي أقيم بتاريخ 23 و24 /11 من العام الحالي، وبحضور وزارة العدل ومجموعة من الأطباء على مناقشة تفاصيل الخطأ والمسؤولية الطبية وإيقاف الطبيب، ليتم بعد المؤتمر استخلاص نقاطٍ تعد نواة البداية للتعاون بين نقابات الأطباء والقضاء.
وفي خطوة قضائية مهمة تم إصدار تعميم من وزير العدل بعدم إيقاف الأطباء إلّا في حالات خاصة، فيما أكد سعادة أن كل الحالات في دمشق يتم استجوابها عن طريق النقابة التي تدعم الطبيب من دون الانحياز له في حال الخطأ، بالتزامن مع ضمان حق المريض إن كان على حق، مشدداً في ختام حديثه على استحالة قيام الطبيب بالخطأ الطبي عن قصد، والذي يحكمه قسم “أبقراط” الذي يعد بمنزلة وسام لكل طبيب.