عصر تفجُّر المعلومات. بات العالم بقاراته الشاسعة وبحاره ومحيطاته قريةً صغيرة يعرف أهلُها بعضُهم بعضاً. البريد الإلكتروني السريع جعل مؤسسات البريد بكل موظفيها نسْياً منسياً. مواقع البحث أنهت زمنَ الموسوعات. دورُ النشر حتى العريقة منها، باتت متطفلة على مواقع النشر الإلكتروني، والمكتبات المنزلية باتت عبئاً على الورثة فحوّلوها إلى الأرصفة للبيع أو التصدُّق على من يقبل إخراجَها من صناديق الكرتون بعد أن تحوّلت الكتب إلى ملفّات صغيرة على الأجهزة المحمولة! أما طلاب الوظائف فعليهم، فوق الشهادات العالية، مهما كان الاختصاص دقيقاً والوصول إليه مضنياً، أن يتقنوا التعاملَ مع الذكاء «الصناعي» ودخولَ هذا العصر الذي أجبر كلَّ سكان «القرية الصغيرة» على «الأتمتة» وحوَّلهم إلى رموز!
في الأمس انهارهذا العالم عندي بكلّيته، وانطوى لخلل في أحد مغذّياته! بتّ خارج العصر الجديد الذي داهمني في منتصف العمر، وبذلت بعض الجهد لألتحق به متقصّية أسراره، ووجدتُ نفسي، كما في أفلام الخيال العلمي، مقذوفةً على أرض جديدة أتلمس فيها الطّبائع التي لا تتبدل: القراءة بحكم تغذية الروح حتى لا تموت. كانت قصة «تشيخوف» الشهيرة «العنبر رقم 6 » بين يديّ ربما للمرة السادسة! لكنني فوجئت بأنني لم أعرف منها قطُّ إلا حكاية «لينين» الذي تأخّرعن شاي الساعة الخامسة حتى يتمَّها، وقال لزوجته مذهولاً: شعرتُ أن كلّ روسيا هي «العنبر» الذي تحدّث «تشيخوف» عن نزلائه من المرضى النفسيين!
في قراءتي الجديدة سبرتُ أغوار الشخصيات بشكلٍ أعمق، وزكمت أنفاسي روائح مخلّفات المشفى المتروكة في مدخلها، ولمست التركيبة الباهرة للارتياب لدى المريض وجموح تناقضات المشاعروالأفكار لدى الطبيب، وأزعجني فوق كل شيء عدم اهتمام الطّباعة بالهمزات والتنوين!
واصل «الذكاء الصّناعيّ» غيابه عني، فواصلت القراءة، ومعها تدفّقت باقات من الأفكار والأسئلة: لماذا تفوق الكاتب في قصة «العنبر رقم 6 »؟ ولو أن المترجم لم يكن مصرياً وكان سورياً لاختار كلمة «الجناح» بدل «العنبر» هل كانت ستبقى التسمية بالتأثير نفسه؟ وماذا أيضاً عن قصة «وحشة» التي تُرجمت بعنوان «كآبة» وماذا عن قصة الكاتب نفسه « الراهب الأسود» هل أستطيع تنحيتها بعيداً عن فوز «العنبر رقم 6 » بالأهمية لأنها كشفت الواقع الاجتماعيّ المزري كأنها مشرط جراح دقيق، بينما كان «الراهب الأسود» يمضي بعيداً في عوالمنا النفسية شديدة التعقيد؟
أعود إلى «المجلد الثاني» من أعمال «تشيخوف» كلما خلوت من مشكلات الماء والكهرباء، فأجده بانتظاري بغلافه الذي يقاوم التلف منذ أكثر من ثلاثين عاماً لأنبهر بمحتوياته رغم أنه صار من نتاج حضارة تُحَثُّ الأجيال على نسيانها، ولا يفارقني سؤال: أيُّهما الحضارة؟ تلك التي تنهار، وتختفي برمّتها لسبب واحد (قد يكون غير الكهرباء في بقعة أخرى من القرية الصغيرة) أم الحضارة اللابثة بقوة صناعتها ووجودها الذي يتلقَّفُنا حتى في زمن الانهيارات؟
نهلة سوسو
124 المشاركات
قد يعجبك ايضا