حوار بحري

علاقتي بالبحر ليست قديمة، فأنا شخصياً لا أحبُّ السباحة ولا تغريني أصلاً هذه الرياضة.. لكن أعترف أن لونَ مياهه واتساعه وهديرَ أمواجه عندما يبدو متعباً يلهث ويسعل كمدخن ثمانيني أنهكته الرياح وعوامل المد والجزر وحركة السفن التي تحمل أسباب الحياة وأسباب الموت.. كل هذا يدفعني لأن أقف على أطرافه واستمتع بالهدوء والضجيج اللذين يصدران عنه..
ذات مرة سألته عن أحواله فقال: سأتراجع عدة أميال عن اليابسة، لأفسح المجال أمام المستثمرين ومن يملكون الأموال عندكم ليقيموا استثماراتهم عسى أن تدرَّ على العوام بعض أسعار الخبز.. من دون استئذان أخذت دوره وبدأت أزمجر بعد أن سمعت كلامه وقلت : لقد بلّطناك وأعدناك عشرات الأمتار إلى الوراء ..أقمنا فوق مياهك كورنيشاً، يعبره المارة والدراجات الهوائية والآلية وسيارات الذوات، الرياضيون والسياح ومن يراكضون كلابهم” الإفرنجية “.. على الصخور يقف الصيادون ينتظرون رزقهم ومن بين تلك الصخور تخرج عشرات الجرذان بحثاً عن بقايا طعام يرميها أشخاص مهملون، لا منَّة لك في كل هذا لأن إرادتنا في تحسين المكان هي التي دفعتنا إلى فعل هذا ..
قال: لا أنكر أن مئات الأطفال يتدربون يومياً على المشي فوقي وعشرات اليافعين والمراهقين والعجزة الذين يتمسكون بالحياة يعبرون فوقي من دون أن أتوجع.. ما يؤلمني فعلاً تلك السيارات والدراجات النارية التي تصدر أصواتاً أعلى من هديري في أيام العواصف وتهديدها حياة الأبرياء.. ما يؤلمني، حزام الفقر الذي تسمونه شرقي الكورنيش البحري.. عشرات السنين وأنتم تُعِدُّون عشرات الدراسات، ولم تقدموا حتى الآن حلاً واحداً تقبله جميع الأطراف.. نعم أصبحت هناك أطراف كثيرة معنية بالحل بعد أن كان الأمر بيدكم وحدكم.. يمكن لبلديتكم أن تصدر قراراً وتتبناه وتعمل على تنفيذه.. هي أمّ وأبو الصبي، هي صاحبة القرار.. هل يرضيها شكل وواقع بيوت الفقراء .. نعم هناك جهات وصائية، ضعفكم أعطاها أكثر من دورها.. وزارات وصائية وأخرى دخلت على الخط من دون استئذان تعمل على تعطيل الحلول.. ضعفكم هذا يفسح المجال أمام أصحاب المال لابتزاز الفقراء.. عقارات يمكن تخمينها بالأخضر والأصفر وكل العملات والمعادن النفيسة، تكشِّر لأجلها عشرات الأنياب.. وأنتم صامتون..؟!
صمتُّ قليلاً ثم قلتُ: معك حق .. اليد ذاتها التي هدمت عشرات الفلل في مدخل طرطوس الجنوبي قبل أن تطأها قدم، في مشروع ما يسمى كونكورد.. ومازالت بوراً وهشيراً.. هي اليد ذاتها التي تعبث بقرار تنظيم شرق الكورنيش البحري وطرطوس القديمة ..
غادرته مكتئباً مكسوراً أحمل على كتفي كلَّ الخيبات التي سمعت عنها وعاصرتها وعشتها شخصياً على أمل جولة أخرى يكون فيها مجلس مدينة طرطوس قد نفض كلَّ الغبار المتراكم عن إرادته!!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار