منذر حسن في مرافعته عنْ بلدٍ على بُعدِ عطرٍ بَكتْهُ سوسنة
راوية زاهر
(أفرد الحسن هواه) مجموعة شعرية للشاعر منذر حسن – الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، والتي تأتي بعد أعمال تحمل عناوين من قبيل: (شموخ السنديان، أدعوك فاتحة السحاب، دنيا، وكن عشبي الذي..).. وفي وقفة مع الإبداع، يطالعنا هذا الكتاب بعنوان متفرد.. (أفرد الحسن هواه)؛ إذ اقتصرت المجموعة على هذا العنوان الوحيد، فلا عناوين ولا تبويب، وكأن لسان حال الشاعر يخبرنا بأن الجمال لا يتجزأ ولا يبوّب، ولا قيمة لكثرة العناوين أمام عنوان يجلب المعنى والصورة والحدس.
العنوان حمل صورة تداخل فيها الحسي بالمعنوي في محاولة لإعطاء صورة كاملة عن نتاج أدبي شعري يدور في رحاب الحب والجمال، البنفسج والاوطان،.جاعلاً من خيالات المتلقي فضاءً منفتحاً، أشبه بطائر أفلت العنان لجناحيه كي يُحلقا في سماوات الحب والكمال برفقة خمرة عشقٍ مُعتقة أترعت كؤوسها في رفع نخب جمال القصيدة:
“أفرد الحسن هواه
وتثنى مهجتيه،
وثلاثاً بعد أولى
أوّل في حالتيه،
ربعه شفّ الهوى،
والهوى منه إليه
دوّريها يافتاة
واتركي الباقي عليه
واسقنيها من يديك
أشتفي من خمرتيه،
ياشفاهاً من نبيذ
جمرها يحنو عليه.”
وكان من أ كثر ما يسترعي الانتباه هو التكديس الشديد للصور، ودورها الخلاق في استكشاف شيءٍ بمساعدة شيءٍ آخر، وكان الأهم هو ما تركته هذه الصور في نفس المتلقي من الدهشة والفرادة.
وكذلك ما تركته من فراغات في لغة الشعر، ولخيال المتلقي كما المبدع حرية ملئها، أضف إلى حالة الربط السّلسة بين العتبات الداخلية والخارجية للنصوص الشعرية، وما حملته من سلامة الأداء اللغوي في النص والذي أدى إلى التوصيل الفكري السليم للمتلقي..
(الحب ياصديقي أن نقترف طهر المرايا..)
لغة تقوم على التضاد، وما يحمله من إظهار الجمال، وما يعطيه للصورة من دينامية وحركة مذهلة.
“يا أيها التعبُ الحكيم؛
ليت المسافة بيننا لغة فقط،
إن المسافة بيننا
الزمن
الطويل..”
وصف الشاعر التعب بالحكيم، إذ ربط في هذه الصورة التعب كلفظٍ يدلُّ على الجامد المعنوي والحكيم، الشيء المادي الملموس في تشخيصٍ للتعب من قبيل الاستعارة المكنية، محدثًا تشظياً عالياً للخيال،
وقد أكثر من صور هذه الإستعارة
(يخلع الوقت قميصهم المبتل)
(الأزرار اللصة تضحك)
وفي تفردٍ لافت، عمل الشاعرُ على انزياحية اللغة، ومال في أسلوبه ومعجمه اللغوي إلى الرومانسية وارتباطها بالطبيعة (العطر النسائم، حقل البنفسج، الأصايص..).. لنلاحظ أناقة في الأسلوب الأدبي،
والميل إلى التخييل، والعاطفة المتوقدة المستمرة، بعيداً عن لغة الأرقام الجافة، وقد نوّع الكاتب في أسلوبه بين الخبري والإنشائي:
(يا أنت
يا من ترتدين
قلبك،
لا تهربي)..
إنشاء بصيغة نداء قريب محبب، يليه نهي عن الهرب، في محاولةٍ للإقناع، وإثارة ذهن المخاطب.. كما طغى هذا الأسلوب على المحتوى الشعري: (لا تتركيني غريباً، أكانت تشبهك، لا تسقني نصفاً ونصفاً مرتين.)
أما الأسلوب الخبري، فبدا جلياً لما له من تأثير في العقل والقلب في رغبةٍ لتقرير المعنى وتوضيحه: (دافئاً صوتها هذا المساء وعرائشه مثمره).
وقد أثبت الشاعر المقولة التي تشي بحاجتنا في الشعر الحديث إضافة إلى الحواس الخمس إلى حاسة سادسة، وهي الحدس.. وقد كانت حواسه حاضرة بشدّةٍ من عطرٍ وطيوب، وبوح أصابع، ولغة عيون.
أما حدسه فقد كان أكثر حضوراً في محاولة من الشاعر للتواصل عن طريق حدسه بين الباطن والعقل الواعي لإيصال رسالته فيما يخص الوطن والخيبة والاغتراب.
و لدمشق حضورها العبق في مجموعة الشاعر حسن، في وصفٍ دافق لعشقه لها، وفي استحضارٍ لحال واقعها المملوء بالأنين والألم.
“هي ذي الطيوبُ،
ومن دمشق
نشورها،
والعطر
تنزيل الجنان
بغوطتيها.”
أضف إلى استخدام الشاعر الرمز بقوةٍ تاركاً لنا من خلاله الغوص فيما وراء النص.. والرمز كما عبّر عنه أدونيس بأنه كل شيء خفي وإيحاء.. فأسلوب الشاعر مال إلى الرمزية والرومانسية من خلال التركيز على عناصر الطبيعة ورموزها والتعبير عنها وجدانياً في أسلوبٍ تراسلي.
“كن ما تشاء، إذا اغتربت،
فلن أراك
ولن تراني..
لم اهتد لإناء وجهك
منذ
بدلت الأواني
والماء يهرب من رحيلك
خلف أشباه المعاني.”
واتجهَ الشاعرُ بحرفيةٍ إلى استخدام تقنية التناص إذ أحالَ الكثير من نصوصه إلى نصوص وقصص أخرى معروفة وربطها بالواقع الجديد، من قبيل:
“موسى لا تخلع نعليك،
فالوادي ممتلئ أشواكاً،
والحيةُ إذ تسعى
لن تحميك
من شوك طوى”
وكذلك استخدم أسلوب التضمين في أكثر من مكان والمواربة في بعض صوره (ألا بذكرك تطمئن الورود).
وقد أشرك الشاعر المتلقي في الحدث الشعري عندما أكثر من استخدام “كاف” المخاطبة، وهذه اللغة تشعر القارئ بأن الكلام موجهً له.. كما كانت لغة الشاعر طيعة لينة، طاقاتها الشعورية هائلة، وكان التصوير فيها باذخاً، وحملت ترابطاً شعورياً ومعنوياً بالمعنى والمبنى، كلُ ذلك في ميلها إلى السمو والرفعة والحنو.