الآداب القديمة

“إن الذين لهم صلة دائمة بالعالم القديم
كانوا يبدون لي أكثر انصياعاً لحكم الواقع
وأكثر فهماً للحقيقة من غيرهم” ماثيو أرنولد.
للنصوص القديمة، قوة فعالة ومدهشة.. من يستطيع مقاومة الاستجابة السحرية لقوة الخيال القديم في ملحمة الخلق البابلية “أنوما أليش” أو “ملحمة جلجامش” أو “كتاب الموتى” الفرعوني أو ملحمة “هوميروس”؟ وكل النصوص القديمة لها هذه الجاذبية التي لم تخفت أبداً بل تتجدد مع الزمن.
إن تاريخ الثقافة متواصل ولا توجد قطيعة تامة مهما حاول دعاة القطيعة أن يدعموا موقفهم، فالإنسان مكوَّن من ذاكرة فردية، ومن ذاكرة جمعية ضاربة في القدم، وتكون أكثر عمقاً كلَّما اتسعت المعارف وقويت لغة التعبير، والقصص والحكايات الشعبية واللغة الملفوظة كلها تجليات لهذا التواصل بين الإنسان في تاريخه، الإنسان حامل أزمنة ضاربة في الزمن، قبل ولادته البيولوجية وما بعدها، ثم تأتي الآداب والفنون لتشكل طبقة ثقافية أولية من الصعب تجاهل دورها في تكوين الإنسان الثقافي الذي يميل إلى الشمولية وإلى تراكم المعارف.
فنحن في عصرنا هذا الذي نعيش يحمل كلٌّ منا طبقات ممتزجة ومتداخلة من الثقافات القديمة ومتعددة الأجناس والأمكنة، ولذلك يكون الإنسان في الثقافة عالمياً حتى لو كانت رموزه وخياله وأدواته ولغته محلية كلُّها، ونكتشف اليوم أن الحكايات والأساطير القديمة والأشعار والأناشيد التي لا تزال تؤثر فينا وتدهشنا، متقاربة ومتواشجة فيما بينها حتى نعتقد أن البشرية في فجر الوعي الأول كانت ذات جذر جمالي وتأملي واحد، ولم تستطع الحروب والاقتتال بين الحضارات القديمة أن تقطع هذه العلاقات الخفية بشكل تام، والتي سرت في وعي الشعوب بشكل خفي وناعم يشبه انسياب الماء تحت التراب لتلتقي في مصب واحد هو الوعي البشري.
لقد أسهمت الآداب القديمة في يقظة العقل، وفيما وصلت إليه البشرية من إنجازات عظيمة، شارك فيها الخيال البدائي للبشر، وهي تحمل ملامح مشتركة لحضارات العصور، يبرز ذلك في الحكايات الشعبية وفي الأساطير المتقاربة الأصول والجذور..
إن النصوص القديمة فيها شيء من القداسة الغامضة، غير الدينية، إنها تتعلق بالإحساس الجمالي البكر، أو الأولي، وهذا النوع من القداسة الجمالية، لا يخدر العقل بل له مفعول في تنشيط الخيال المبدع الذي له دوره في نمو العقل والوعي.
وعلى الرغم من المسافة الزمنية المديدة التي تفصل بيننا وبين هذه النصوص، يخلق بيننا وبينها هذا التزامن وكأنها تنبثق فينا للتو من دون أن يغيب عن بالنا للحظة أنها قديمة جداً، إنها تحيي فينا الرغبة في المعرفة، واللذة في الاكتشاف، ونغدو بالضرورة في حالة عقلية مستنفرة ومتنبهة.
أغلب النصوص مجهولة المؤلف، حتى ولو عرف المؤلف، فإنها تنسب إلى حضارة أو شعب ما.
فنحن لا نعرف مؤلف “نشيد الخلق البابلي” ولا اسم مؤلف “ملحمة جلجامش”، وحتى أننا لا نعرف على وجه اليقين اسم مؤلف كتاب “ألف ليلة وليلة”، وهذا لا يقلقنا لأن العلاقة تكون مباشرة مع النص..
تحتوي النصوص القديمة على فائض في المعنى والدلالة يجعلها قابلة للتأويلات المتعددة، وهي تشبه عالمي الأحلام والطفولة، لأن الخارق فيها يغدو مقنعاً وقابلاً للتفهم من القراء..
هذا الإرث الحكائي القديم يشكل خزاناً خيالياً يغذي الخيال الكوني المبدع.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار