درجت العادة عند النقاد الداعين للكتابة الجديدة الترويج لكتابة خالية من المعنى، فالقصيدة والسرد نص بياض خالٍ من المعنى، أو الدرجة “صفر في الكتابة”، على حد تعبير رولان بارت، وهذا النوع يتجاوز “الشكلانية” التي لم تبلغ هذا المبلغ من تفريغ الأدب من أي محتوى، بل دعت إلى إهمال المؤلف، وإلى إنكار القول إن العمل القصصي يعكس الواقع، وإهمال البحث عن المعنى اكتفاء بالوعي القائم في الشكل الذي يعد المادة الحقيقية للعمل القصصي.
الدعاة الجدد للكتابة الجديدة، عندهم الكتابة خالية من الهدف ومن القصد وهي كتابة لمجرد الكتابة، وإذا جاء أي معنى عرضاً يمكن تركه أو حذفه في التنقيح.
بينما كان الأدب عند “الطليعيين” يركز على الرسالة الأخلاقية والمسؤولية، والشعر لغة محملة بالمعنى، هذا النوع تمَّ تسفيهه بوصفه إقحاماً لمنظومات من خارج النص، ولنا أن نتخيل نصاً شعرياً أو سردياً بلا معنى، فهل سيكون له شكل أو بنيان؟
في العقود الثلاثة الأخيرة انتشرت كتابة مجانية مدعومة بنظريات أدبية جديدة تدعو إلى كتابة متحررة من الهدف ومن التصورات ومن الذاكرة أيضاً، أدب يزعم أنه ضد الرواسب الأيديولوجية والتاريخية التي تجعل للأدب وظيفة اجتماعية لا علاقة للأدب بها، وسيكون “الأدب النقي” الخالي من هذه المحمولات أكثر أدبية وأكثر جمالية!
وأشد تجليات هذا النوع من الكتابة تجلى في القصائد الشعرية “الهذيانيّة” التي يصعب اصطياد أي معنى شارد فيها، والعبارات الباردة والعادية والعلاقات المتنافرة بين المفردات تجعل الشعر يبدو وكأنه في محنة أو مشكلة مزمنة، إذا ما قورن بالذاكرة الشعرية للشعر المحمل بالمعنى، المبني على التضافر بين الشكل والمحتوى في وحدة عضوية.
كانت الموجة الجديدة قوية وكاسحة لدرجة أنها لم تغادر خيمة الشعر حتى قوضتها، ونحن اليوم نواجه مواقف سلبية من الشعر الذي يكتب، ونشهد نفوراً يشعرنا بالمرارة. حقيقة الأمر فقد الشعر مكانته التي شيدها الشعراء عبر العصور، منذ شعر الملاحم القديمة والأناشيد، وحلَّ البياض والمحو ضيفاً قاتلاً على الشعر، وانتقل الأمر من الشعر إلى السرد الجديد الذي شهد أيضاً دعوات مشابهة، نذكر منها: ما يوصف بروايات الفراغ التي يكتبها سرديون “قابعون في صومعة منتصف الليل”.. روايات باردة، مملَّة، تتخللها بعض المشاهد أو المواقف الراديكالية التي تراود بعض المحظورات. انتشرت هذه الدعوات لفترة من الزمن لم تلبث أن انحسرت، وهي ترى أن السرد الأكثر أهمية يقتصر على وصف المكان والخوض في التفاصيل إلى أقصى حدٍّ، ونشدان اللغة الباردة والجافة وإعلاء راية الحياد وتحييد الانفعالات والمواقف العاطفية! ويكفي أن تسهب في الحديث عن الأشياء والأماكن والحياة اليومية للإنسان العادي، حتى تُعمَّد عضواً في حزب الأدب الجديد، “أدب الملل” ويقولون: لماذا لا يكون للملل أدب يعبر عنه؟ “أدب الملل” هذه التسمية جعلها الناقد جان بلوك ميشال عنواناً لأحد فصول كتابه: “المضارع” يخصصه للهجوم على هذا التيار.
كان الناس حتى عهد قريب يحبون الأدب، ويرون في الأديب والشاعر حاملَ قيمٍ عالية، وكان الشاعر يتمتع بمكانة ووجدانية وينظر إليه على أنه مفخرة الشعب، حتى ولو كان الشعب لا يقرأ الشعر.
هذا الأمر لم يعد موجوداً حتى في الحلم، لقد فقد الأدب المقدرة على تفعيل الاستجابة والتفاعل، ولا مخرج لنا إلا في عودة الروح الانفعالية إلى الأدب من جديد.