مسرحُ العبث .. تهكّم من عبثية الحياة المزيّفة!

«أعرف أنني موجود .. لكن من أنا؟ كل ما أعرفه عن ذاتي أنني أتعذب .. في أساس نفسي تشويه وانفصال، وفي كوني تعمُّ الفوضى، هنا يكمن السر) أداموف.
إنه شعورٌ موغلُ العمق بالاغتراب، ينحو الإنسان من جرائه للقلق واليأس، يرفض الواقع بكل مقوماته ونظمه، معلناً عبثية لا متناهية، لتتحول جهوده إلى نشاز في ظل واقع اجتماعيّ مؤلم، وتنامي فردية الإنسان وانعزاليتهِ.
ظهر مسرح العبث كاتجاه يسعى إلى التجديد، والتخلص من العالم الرأسمالي، ومن قيود المذهب الواقعي والطبيعي، ومن الحضارة التقنية، في محاولةٍ لوضع تفسير مختلف للإنسان المعاصر. في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين عام 1953 طلع علينا الفرنسي الموطن والإيرلندي الأصل صموئيل بيكيت بمسرحية «في انتظار غودو»، عرضٌ اتسم بغموض الفكرة وعدم وجود عقدة تقليدية، وانعدامٍ لأي حل.. مسرحية رمزية مبهمة للغاية تركت تساؤلاً حول المعنى، لتُمسي ظاهرة أدبية وفنية مهمة ومؤثرة ومثيرة للجدل بما سُمي العبث أو اللامعقول.
عبثية حياة
يقول المسرحي (مارتن أسلن): «إن ظاهرة مسرح العبث، لا تعكس اليأس والرجوع إلى قوى سوداوية غير عقلانية، ولكنها تفسر محاولة الإنسان التواصل مع عالمه الذي يعيش فيه». أما المفكر المسرحي (إدوارد ألبي) فعرّف مسرح العبثية بأنه: «محاولات الإنسان البحث عن ذاته، في مكان لا معنى له، وفي عالم لا قيمة له. لنقوم بإخضاعه للعقل أحياناً، ونمنحه الحقيقة أحياناً أخرى بأسلوب المزج بين المعقول واللامعقول، بين الإيحاء والإدراك من أجل تحجيم الواقع، باتباع أسلوب السخرية من عبثية الحياة المزيفة».
وبالتالي فقد رفض كتُّاب مسرح العبث أمثال: بيكيت ويونسكو، وأرتو أداموف، وجان جينيه، وجورج شحاته، وغيرهم، الأسس الثقافية والسياسية للعالم الرأسمالي ومبادئه المتمثلة بالمنافسات الدموية وأوهام المجد الكاذبة وغياب فردية الإنسان في مواجهة المؤسسات القوية التي تقوم بسلب أرواح الناس وتغذية عقولهم بالخرافات والثقافات الكاذبة، وتجنيدهم لتحقيق مصالح غير إنسانية.
صور غامضة
من أجل تصوير واقع عبثي فوضوي، استخدم مسرح العبث صوراً شعرية غامضة ومتشعبة، وغيَّر أماكن الأشياء كي ينزع عن الحياة اليومية الشكل المألوف بأسلوبِ تهكمٍ وسخرية، معبراً عن ذلك بالتمرد ومستعيناً بالحلم. يتخذ مسرح العبث من القلق أشكالاً خيالية لشخصياته، لتنتهي المسرحية عادة كأنها بدأت للتو. يرى (يان كوت) أن «الغروتيسك» المتمثل على مستوى الهيئة والفكر كرؤية إنثربولوجية، ما يميز مسرح العبث، فهو يعالج المأساة وتناقضاتها، من معنى الكينونة والحرية والمصير إلى التفاوت بين المطلق والنظم البشرية الفاسدة.
أما اللغة في مسرح العبث فهي عميقة وذات بعد فلسفي يعبر عن عزلة الإنسان ووحدته، لكنها غير قادرة على تحقيق التفاهم بين الشخصيات، حيث تمسي «الكلمات بالنسبة إليَّ مظاهر صوتية خالية من المعنى كشخصيات أفرغت من سيكولوجيتها، لقد تخيلت نفسي أنني كتبت ما يماثل تراجيدية اللغة!) على حد تعبير يونسكو. وباقتحام اللغة المرئية والسمعية أُفرغت اللغة من محتوياتها وتجردت من وظيفتها التواصلية، بحيث صارت عائقاً بين الناس.
محاكاة هزلية للواقع
أضحى المسرح العبثي تعبيراً عن تجارب درامية وأبعاد ميتافيزيقية، من دون حكاية أو حبكة مترابطة، وإنما عرض لمواقف متناقضة يتراوح فيها الخط الدرامي بين الصعود والنزول والخطيَّة، فضاعت البداية والعقدة والوسط والنهاية بما يتماشى مع فلسفة العبث التي تسخر من كل القوانين المبنية على المنطق. كثيراً ما تعرَّضَ مسرح العبث للنقد والذم من النقاد والجمهور معاً. لكن مع الزمن صار لهذا التيار المسرحي الجديد مناصرون حول العالم، يتفقون حول عبثية حياة الإنسان، خوائها وعدميتها في عالمٍ تحكمه الفوضى، فسكبوا عناصر ضياعه وعجزه على خشبةِ مسرح عبثيٍّ صغير.
المسرح العبثي السوري
مسرحٌ صغير بديكوراتِ إيحاءٍ بسيطة، شخصياته لا تملك أي أبعاد نفسية أو اجتماعية أو ثقافية واضحة، ذات كيان خاص يبقيها غير مفهومة إلى حد ما وبالتالي لا يعود من السهل تفسير العالم من وجهة نظرها.
لم يرد المسرحيُّ العبثيُّ السوري أن يعرض الواقع، لكنه حاكاه بسخرية رمزية وخيال لكشف زيفه، فكانت المحاكاة المتهكمة والرمز والحلم والتراجيديا من الأدوات الفنية الأكثر حضوراً في مسرح العبث السوري، لتبدو الحياة حلماً والواقع مسرحاً كبيراً يحرر القوى الخفية، ويطلق الإلهامات بملهاة سوداء تدفع المتفرج قُدُماً، وتثير عقله وقلبه ثم تشتته وتحيره، وبالتالي تضاعف المسرحية قدرتها وتكتسب منحىً جديداً.

«ليست أنا» مونودراما مسرحية أعدها المخرج (إبراهيم جمعة) دامجاً نصوصاً ثلاثة لصموئيل بيكيت، لعبت بطولتها الممثلة توليب حمودة، في محاولة لتقديم تصور عن عالم الأوهام والتخيلات المشوهة بأسلوب نقدي للواقع وبطريقة رمزية. بينما قدم المخرج موسى الأسود عرض «ألعاب السكون الأخيرة» مزاوجاً العرض بين أكثر من نص مسرحي، الأول نهاية اللعبة لـصموئيل بيكيت و«ماجدة والمائدة» للكاتب البولوني (أندجي ماليشكا) في عرض يدمج العبث المسرحي بالسينمائي. وفي النهاية لا ننسى العرض المسرحي العبثي «الأرامل» للكاتب البولوني (سلافومير مروجيك) الذي قام بترجمته وإعداده المخرج سامر عمران المحمل بكوميديا تراجيدية عميقة؛ هدفها الفكري كامن في محاولة العثور على طريق سوي يحمل تفسيراتٍ لمتطلباتٍ متناقضة في الحياة اليومية.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
إصابة مدنيين اثنين جراء عدوان إسرائيلي استهدف منطقة القصير بريف حمص (وثيقة وطن) تكرم الفائزين بجوائز مسابقة "هذه حكايتي" لعام 2024..  د. شعبان: هدفنا الوصول لحكايا الناس وأرشفة القصص بذاكرة تحمل وطناً بأكمله معلا يتفقد أعمال تنفيذ ملعب البانوراما في درعا ويقترح تأجيل الافتتاح بسبب تأثر المواد اللاصقة بالأمطار الوزير الخطيب: القانون رقم 30 يهدف إلى حماية بنية الاتصالات من التعديات الوزير صباغ: إمعان الاحتلال في جرائمه ضد الشعب الفلسطيني يعبر عن سياسات إرهابية متجذرة لديه سورية تترأس اجتماع الدورة السادسة للمجلس العربي للسكان والتنمية في القاهرة الجلالي يبحث مع أعضاء المجلس الأعلى للرقابة المالية صعوبات العمل ووضع حد لأي تجاوزات قد تحدث طلاب المعهد الصناعي الأول بدمشق يركّبون منظومة الطاقة الشمسية لمديرية التعليم المهني والتقني أجواء الحسكة.. عجاج فأمطار الأضرار طفيفة والمؤسسات الصحية بجهوزية تامة لمعالجة تداعيات العجاج انطلاق فعاليات أيام الثقافة السورية في حلب بمعرض للكتاب يضم ألف عنوان