في ثالثتها الشعريّة.. سُعاد محمد تتيمنُ بالورد!
«أتباعُ الكلمةِ لا يُهادنُهمُ الليلُ
حقُّ القمرِ علينا…
أن ننوبَ عن الزّهرِ النّائمِ
نكتبُ…
لننقلَ جبلَ الهمومِ كلمةً كلمةً
بعيداً عن قلبِ الأرض الأخضرِ،
ثمَّ نُغطّيهُ بغاباتنا المجازيّة..
عُربونَ خلقٍ..»
كأنّ الشاعرة سُعاد محمد، ومنذُ أولى صفحات ثالثتها الشعرية «تيمناَ بالورد» الصادرة مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب- وزارة الثقافة، تُريدُ تقديم الغاية من كتابة القصيدة، أو ربما تقول: هذه هي مهمة الشاعر، وشاغله في أن ينوب عن (الزهر النائم)، أو عندما ينام الزهر عن مهماته في بثِّ روح الجمال، ونثر العطر عندما تقحلُ الأرض، ومهمة القصيدة أن تُبقي قلب هذه الطبيعة أخضر مهما توالت السنواتُ العجاف.
وهي هنا ليست مهمة جمالية صرفاً وحسب، بل على القول الشعري أيضاً وبما يحمله من حمولاتٍ جمالية أن يُخفف البشاعة، ويُقلل من صانعي القبح في هذا العالم، عليه مهمة أخرى عظيمة تراها للشاعر والقصيدة، وذلك في نقل (جبلَ الهمومِ كلمةً كلمةً)، وهي مهمة نبيلة بكلِّ تأكيد، فثمة وقتٌ حزين، وربما بائس، وجاف، ومُبتلى بالقحط واليباس، وعلى أتباع الكلمة ألا يُخيفهم ذلك المشهد، أو أن يلوذوا منه بالصمت والاستسلام، فهم بما يملكون من أقلام أشبه بالمحاريث التي بوساطتها يزرعون الحقول الجرداء بغابات خضر وبسهوبٍ من نعنع المجاز، وفي هذا تأكيد على الغاية الجمالية للقصيدة، والمتعة التي تُقدمها لمتلقٍ تكادُ تبتلعهُ وحول الإحباط والخيبة، وتكاد رمال الحياة المُتحركة تُغيبه عن وجه الأرض.. والكتّابُ وحدهم، ولضلوعهم المزمن في الأرق يلمحون القضيّة، وقد خبروها كما يليق، ذلك أن للشاعر مهمة نبيلة، وربما تشبه مهمة الأولياء الروحية، غير أنه يؤديها بعفوية الأطفال وبراءتهم.
«الكاتبُ لا يجلسُ في حجرِ الليل المُوسر..
يلفُّ ساقهُ على ساقِ الرغبة..
يحملُ له الحظُّ طبقَ التّمني
ريثما يُنهي النعاسُ ترتيبَ سريره
بالأحلامِ الطّرية!
(…)
حينَ يتمُّ الكاتبُ نذورهُ..
ينفضُ يديه من الحياة..
ويرقدُ كالأطفالِ والأولياء!».
هكذا يُقدّمُ الشاعرُ نذوره من دون إراقة سوى لهذا (الأزرق) الذي يمدّهُ على البياض، وهنا يصيرُ الحبرُ مُعادلاً لسفك الدم، أو كبكش فداء، والشاعرُ وهو يُهرقُ مداده في عجلةٍ من أمره، حيثُ تصيرُ الأربع والعشرون ساعة ومضةً قصيرة لإقامة شعائر الحياة، الأربعُ والعشرون المُرشحة دائماً لأن تكون الأخيرة، أو الخاتمة.
«الأربعُ والعشرون.. أبداً لا تكفي
لإقامة شعائر الحياة حتى دون النوافل
ليومٍ مُرشحٍ دائماً ليكون الأخير!»
فطاولة الحياة مُفعمة بالفوضى، والتاريخ كُتب على عجل، وعلى الشاعر مهمة إعادة فوضى الكون إلى صوابها، من هنا هو دائماً بحاجة إلى الساعة (الخامسة والعشرون) ليُعيد تنسيق الزهور، وقد داستها الحوافر، يحتاجها لتجفيف الدم عن كتب التاريخ، وإسكات صليل السيوف، وإعادة الرؤوس المقطوعة لتعلو أكتافها.. كما يحتاجُ الشاعرُ وقتاً خارج الزمن لينهب:
«كلَّ شجرِ الشّعر المُشاع
الذي زرعه الأسبقون..
وأزرعُ باسمي قصيدةً بعنوان:
(القيمةُ أنثى) لو اختلتْ بالموتِ لأنسنتْهُ!».
(تيمُّناً بالورد)، هي المجموعة الشعرية الثالثة للشاعرة سُعاد محمد، وذلك بعد مجموعة (الغريب – 2016)، ومجموعة (عالٍ هذا السرج – 2018)، أي إنّ نتاج الشاعرة محمد من النتاج الإبداعي خلال حرب السنوات العشر على سورية، هذا النتاج الذي أظهر عن نوعية شعرية لشاعرات، كانت أداتهن القصيدة سلاحاً يُقارعنَ من خلالها وجوه الخراب، وهو نتاج شعري يُمكن الحديث اليوم مطولاً عن الكثير من الملاح التي أمست من علاماته الفارقة، ومع ذلك يُمكن الحديث عن أساليب مختلفة لكل شاعرة.. ولمفارقة هذا المُحترف الشعري كان لدى سعاد محمد أكثر من تقنية، وأكثر من مجاز لترتيب قولها الشعري. صحيح أنّ الشاعرة لن تُغيّر (عاداتها) في تناول القصيدة، تلك التي تعاطتها في مجموعتيها السابقتين، ومنها تقنية (السرد) في القصيدة، واستخدام جماليات الحكاية ببراعة، غير أنها هذه المرة تميلُ إلى الاقتصاد والتكثيف ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. هنا اليوم ليس من هدرٍ للغة، كل التراكيب محسوبة بمفرداتها، ودائماً ثمة نقطة تحسمُ تمامها في نهاية التراكيب، التراكيب التي ستشتغل عليها كثيراً من الدهشة، ولهذا حديثٌ يأتي لاحقاً في هذا المقال.
اقتصادٌ لغوي، كأنها تشتغل في مختبر للغة بحيث لا تقع القصيدة على هضاب الأدب الوجيز، ولا يُبعدها أيضاً إلى حقول المطوّلات الشعرية، بل هو النص الشعري الذي يأخذ حيزه اللائق بين النقيضين، بل هي قد تستخدمهما معاً في (مُواربة) إبداعية جمالية، وتُشكّل عمارتها الشعرية الناضجة، وهي تقول: لا للإطالة، ولا للومضة، مع أنها تجمعهما معاً في النص.. وذلك حين سمحت للمتلقي بالقراءة التي يُمكن أن يرتاح بين ومضاتها المتلاحقة، أو حتى الاكتفاء ببعضها، فقد استطاعت أن تُقدم ومضاتها ضمن النص في سرد الحكاية المُفعمة بالشواغل المُختلفة والمتنوعة، وهو ما يُعطي أكثر من خيار للقراءة.
«ألم يأتكَ حديثُ المطرِ:
ما من امرأةٍ اقتلعت البحرَ من (شروشه)،
ورمتْهُ أمامَ رجلٍ..
فاكتفى بِعدِّ السمكِ..
إلا وماتَ ظامئاً..
وصارتْ هي غيمةً؟!»
ما سبق، هو ومضة اُجتزئت من سياق قصيدة تمتدُّ على مدى أكثر من ثلاث صفحات، غير أنها جاءت مُكتملة وخاطفة أشبه بقصة قصيرة جداً تامة الحكائية والمشهدية والمتضمنة الحدث والإخبار، والمختومة بنهاية مُفارقة ومُدهشة وغير متوقعة.
في اشتغالها الشعري الثالث، أمست المُفردات بين أصابع سُعاد محمد كالطين بين أصابع فنانة تشكيلية خزّافة، أو ألوان تركبها بحساسيةٍ آثرة، تمزجُ هنا، أو تتيحُ مساحاتٍ لوحشية اللون الواحد أو الصرف، واللافت في تراكيبها الجديدة الإيحاء بسهولة سحب المفردات من مخزنين لا ينضبان أبداً، المخزن الأول: أو السياق الأول هو سياق المفردات اليومية المُعيشة، وسحبها من مُعتادها المألوف، وإعطاؤها حياة جديدة في سياقٍ شعري جديد وإبداعي مُختلف، وهو الأمر الذي يُعطي للمفردة استعمالات في تراكيب تأتي بالكثير من الإدهاش، وهو ما يُطلق عليه في علم البلاغة بـ«الانزياح». ومن المخزن الثاني، أو السياق الآخر، وهو سياق مُفردات النص القديم، عندما تسعى إلى سحب مفرداته المألوفة من نصوصها السابقة لتُعمّر من خلالها نصها الشعري الجديد، وهو أيضاً ما يُطلق عليه في علم البلاغة التضمين أو «التنصيص»، تنصيص وانزياح تستخدمهما الشاعرة بمقدرة لافتة، وهي تُعطي الحياة لأبياتٍ شعرية لشعراء فوارس مرّوا من هنا في ليالي هذه الصحارى: عنترة العبسي، وامرؤ القيس وغيرهما.. وفي مختبرها الشعري حيث يتماهى النص القديم أو بعضٍ من خيوطه لتنسج منها نصها المُعاصر، نصٌ ثالث بمدى شعرية جديدة لا تملُّ تُغيرُ جلدها أو قل فساتينها عن كلّ محاولة اقتراب شيخوخة أو كهولة في أمةٍ لا تحيا بغير القصيدة، كأن حالة الفنانة التشكيلية تتلبس الشاعرة دائماً في تكاوينها الشعرية، وذلك بأسلوب الزخرفة الملونة للنص الشعري، والحقيقة يُمكن للمتلقي قراءة نص الشاعرة قراءة تشكيلية، وذلك فيما تذهب إليه في إغواء المشهدية التي تقترحها للنص الشعري:
«أنا والبحرُ جاران.. لا أكثر..
لا أفسدُ نشوتَهُ، وهو بمكرِ ذكرٍ
يستدرجُ الشّمسَ إلى دارهِ..
ولا يُثيرُ القمرُ حفيظتَهُ
حينَ يُقبّلُ الزهرَ في عينيّ..
أنا والبحرُ من هواةِ الحقائبِ..
فاحسبني في خاتمِ قصيدة!»
ومن ملامح القصيدة عند الشاعرة محمد، أنّ شواغلها تتعدد، ولا تكتفي بغرضٍ واحد، ولا سيما أنها – كما ذكرنا سابقاً – تستخدمُ أسلوب المتواليات أو شكلها في بناء النص الشعري.. فقد تبدأ النص بمتوالية تأتي كموقف، أو فكرة من الحياة، ثم تليها لكن ضمن مناخات السياق نفسه بمتوالية عن الوطن، وقد تختم بثالثة عن الحب.. وهكذا.
«ها قد صرْتَ غريمي يا حبيبُ..
أشهدُ أنكَ كُنتَ رجلاً مُقمراً
يُغازلُ كإلهٍ ويُعاقبُ كالموتِ..
رجلٌ منَ (العشرةِ التي على الشجرة)..
لكن، والله، ما لهُ أخٌ..
عيناهُ أراجيحُ مُشاكسةٌ
بين شرقيّ الخفرِ وغربي الخدر..
تنزلُ عدَّةُ بحورٍ عن رواحلها..
لتُسلّم عليَّ، ثمّ تُسافرُ بي!».