ناديا حمّاد.. تُعاندُ خريفاً شرساً من خلف نافذة

الخريف، أمسى واسعاً وسع هذا الكون، خريفٌ لا يملُّ يشي، وكأنّ النهايات أصبحت قاب وقتٍ قليل.. فقد أتقنَ الخريفُ فعلته؛ حين أدمى شجرةِ النارنج، وكثيراً من ورد الجوري والحبق.. لكن وبرغم كل ارتكابات الخريف هذه؛ ورغم كلّ احتمالات خواتيم الشتاء؛ غير أن الشاعرة ناديا حمّاد؛ لا تزالُ ترى أنه:
على سطحِ هذا الكوكب؛
لازالَ هناكَ مُتسعٌ
لفنجان قهوةٍ
على كفِّ عشقٍ
بهذه الفسحة من الأمل، والحيز اللائق للحياة، مهما كان ضيقاً؛ تفتح الدكتورة المهندسة ناديا حمّاد مجموعتها الشعرية: «خلف نافذتي خريفٌ عنيد» الصادرة مؤخراً.. وهي ترصد (تناحة) هذا الخريف المُحدق، وعناده، لكن وبرغم كل هذا العراك الذي تخوضه ضده في سبيل تفتح زهرة برغم كل اليباس الشامل؛ غير أنها – حمّاد – تُنازله بلغةٍ سهلة، ومُفعمة بالنعومة، مؤكدةً في منحى كل مجازٍ من بناء القصيدة، على أنه يُمكن للعين أن تقاوم المخرز، وربما تهزمه إذا ما استطاعت أن تفوز في معركة عض الأصابع .. لغة شعرية تجري كماء السواقي لا جعجعة سيول فيها، ولا هدير موج، أو رعونة شلال، وإنما دائماً بأريحية السواقي.
هكذا تسوقُ الشاعرةُ خراف كلماتها بين الجداول لتكتشف المجاز في أجمل مشاهده الملونة، حتى وإن صارت الفصولُ كلها خريفاً.
إذاً من مقعدٍ، أو ربما زاوية ما، من خلف شُباكها؛ تترصد عنادَ خريف حرون كمُهرٍ أبى أن يجتاز ترعة ماءٍ صغيرة، ومن ثمّ كان عليها أن تؤوّل المشاهد الخريفية لأكثرِ من انزياحٍ، أو إيحاءٍ، أو تضاد، أو مُفارقة.. مُتخذةً من «الحكاية» أسلوباً لسرد مقتطفاتها الخريفية التي تصرُّ على تلوينها، حتى من تدرجات اللون الواحد.
أقولُ مُقتطفاتٍ؛ لأنّ حمّاد ذهبت صوب الومضات الوثّابة القصيرة، وذلك في متوالياتٍ شعرية لا تتعدد إلى أكثر من سبع متوالياتٍ، وعلى الرغم من إمكانية تلقي هذه المتواليات – الومضات مُتتابعة دفعةً واحدة، غير أنه يُمكن أيضاً أن يتلذذ بها على مهلٍ ومضةٍ إثر أخرى، وربما يُمكن الاكتفاء بواحدة لقارئٍ عجولٍ ليس لديه الوقت ليكمل البقية.
وإذا ما تابعنا الومضةَ الأولى, والتي جاءت في القصيدة السابقة المبنية من متواليتين؛ تقول المتوالية الثانية:
لاستراحةِ مُحاربٍ
من غُبارِ الحرب..
ولبراعمِ وردٍ
تتفتحُ
حيث قضى الجنود
هذا كان للبناء والصياغة الشكلية للقصيدة، وأما لأمر «الحكاية» ففي النص الشعري، وهذه التقنية – أي غلبة السرد على النص الشعري- أصبحَ اليوم من ملامح قصيدة النثر الحديثة، إذ يُكثر كُتّابها من «الحكائية» حتى كادت تتماهى مع النص القصصي، ولاسيما في شكله الأكثر شعرية ومشهدية، وأقصد بذلك «القصة القصيرة جداً»، وعند الشاعرة حمّاد الكثير من ملامح هذه التقنية الجمالية، ففي نصها الشعري ثمةَ حضورٌ دائم للفعل الماضي والحاضر.. الفعل الذي يوحي بالحدث والحركة دائماً، ومن ثمّ الإخبار، أي شيء من القص والحكاية، وهو أمرٌ من جماليات النص الشعري اليوم، وقلة من يتقنونه من دون الوقوع في فخ المُباشرة:
ولدٌ يهربُ من ألبوم العائلة؛
ل(يُكزدر) كما القمر..
في قبعته هواء،
وفي جيوبه نجومٌ،
وبسكويت..
لا يُريدُ أن يعودَ طفلاً،
ولا أن يصبحَ عجوزاً..
مُعلقٌ
بين رأسه وحذائه..
مضغوطٌ كمرطبان،
مقذوفٌ للكتابة
في هذه اللغة الشعرية الحميمية، المسحوبة مُفرداتها من هذا اليومي الجميل والمُعاش، وذلك بعد نحتها من جديد في سياقاتٍ مختلفة.. تبعد لمسافةٍ ما من استعمالاتها السابقة؛ يُمكن لمتلقي نص الشاعرة وثمة حالة شعرية لافتة في نص الشاعرة، يُمكن للمتلقي تلمسها، وهي تمدُّ بمجساتٍ لغتها لكلّ الأشياء الموجودة من حولها، وكأنها تقول: لماذا الإصرار على تسوّل مفردات القواميس الجذلى الباردة التي تأتي في النص المُعاصر كإحفورات ومستحاثات؟!!.
كما تزيد أيضاً في صياغة نصها الشعري إضافة إلى الكثير من «الكولاجات»، تلك التي يلجأ إليها بعض الفنانين التشكيليين في لوحاتهم، عندما يُلصقون تلك القطع من الخيش، وورق الجرائد، وأيضاً الطوابع، وأحياناً بعض الأوراق النقدية، والأسلاك، حيث يُماهي الفنانون كل تلك المُلصقات مع الألوان الزيتية والأكليريك، وغيرها من الألوان لتُمسي جميعها من عمارة اللوحة وبنائها.. وإذا كانت «كولاجات»، الفنان التشكيلي هي تلك القطع، غير أن «كولاجات»، الشاعرة حمّاد هي مفردات محلية محكية ودارجة، هي مفردات تعتمد من خلالها على الطاقة الكامنة في تفاصيل المفردة ولاسيما في الذاكرة الحميمية والجمعية، وإيحاءاتها الكثيرة، فمفردة «يُكزدر» التي استخدمتها في النص السابق، وبرغم محليتها وعاميتها، غير أنها تختزن طاقةً هائلة كثفت الكثير من المعاني، كما وسعت كثيراً من ضيق العبارة، ووفرت من ثمّ الكثير من المفردات لصالح التكثيف، وذلك بما تختزنه مفردة (الكزدرة) من مشاوير، وأريحية، وسرور، وانشراح.. وغير ذلك الكثير..

وهي في استخدام لهذه «الكولاجات» التي لها وقع كالشم والسمع والبصر؛ إنما تردمُ الهوة بين النص الشعري والمتلقي، وتبعد الجفاء الذي يضرب أطنابه بين النص والقارئ من خلال مفردات يعيشها يوميّاً، وستشكّل له مفاجأة في إمكانية توظيفها شعريّاً..
أما «الكولاجات»، الأخرى التي تستخدمها حمّاد في نصها الشعري؛ فهي تقنية «التنصيص»، وهنا «التنصيص» الذي يختلف، أو يُفارق ما استخدمه السابقون من تنصيص لتراكيب الآخرين في نصوصهم.
يأتي «التنصيص» في نص ناديا حمّاد، كبرهان على ما تقوله، أو تأكيده، فـ«التنصيص» هنا؛ كمن يأتي بوثيقة ليقطع الشك بيقين المقولة للشاعر أو الفليسوف، تماماً كمن يُقدّم تحقيقاً استقصائياً عن حالة ما، أو قضيةٍ ما، حيث يوثق القضية التي يطرحها بكلام خبراء ووثائقهم التي تُسند قضيته..
ويُمكن تفسير هذه التقنية التي تلجأ إليها الشاعرة حمّاد، لأن شواغل مجموعة (خلف نافذتي خريفٌ عنيد..)؛ تحمل في تفاصليها الكثير من هموم وقضايا إنسانية، بل أن من أهم ملامح هذه المجموعة؛ كان شغلها على قضايا إنسانية كبيرة: الجوع، الفساد، الحرب، الجدال، الصمت.. وغيرها الكثير، حتى إن القصائد التي تُعنى بأمر الحب بمعناه العاطفي، ربما لا تتجاوز الأربع قصائد، وبضعة مقاطع من قصائد.. وهذا أمرٌ لافت في النص الشعري المعروف عنه الإغراق في الذاتية.. هكذا سيحضر في نص حمّاد: محمود درويش، سبينوزا، الأصمعي، كونفوشيوس.. وغيرهم.
نحتاجُ الكثيرَ من الصمت؛
لغسلِ غُبار الكلام..
قال سبينوزا:
لو كان للبشرِ الرغبة نفسها في الصمت،
كرغبتهم في الحديث؛
لكان العالمُ مكاناً أجمل..
كونفوشيوس؛ اعتبر
الصمت الصديق الوحيد
الذي لن يخونك..
وقد يكونُ الصمتُ عودَ ثقابٍ؛
بإمكانه أن يُشعلَ غابة كلام
وهكذا ربما قد يمر ما يُقارب من نصف هذه المجموعة الشعرية، وكأنها ترتيلٌ لناسك، أو ترانيم لكاهن اعتاد السياحة على السفوح، ليقطف الحكمة في أجمل تكثيفٍ لها، نصوص تذهب باتجاه الحكمة ريثما يطلُّ نصّ الحب برأسه خجولاً كجوريةٍ حمراء بين كثيف من الأخضر والأجمات .. وحتى في نص الحب، لا تُفارقُ كثيراً نصوص الحكمة، وإنما يبقى ذلك النص الشفيف والبهي الذي لا يقبلُ تسولاً أو ابتذالاً:
“حين غادرتني؛
أحسستُ أنّ روحيّ عرجاء،
تتكئ على عُكازٍ من قصب..”
ومع ذلك – وهذه وجهة نظر شخصية – فإن أجمل نصوص المجموعة؛ كانت نصوص الحب، ولاسيما النص الذي عنونته الشاعرة بـ«النافذة تصنعُ الانتظار», هذا النص الذي تبنيه الشاعرة حمّاد من خلال سبع ومضات، أو في متتاليات من ومضاتٍ سبع، جاءت أقرب إلى الأمثال المُقتضبة، لتختمها بقفلة مُفاجئة، تماماً كنسمة مساء بعد نهارٍ قائظ، ترشق وجهاً حاراً:
“البيتُ؛
يصنعُ المساء..
الملحُ؛
يصنعُ المائدة..
النافذةُ؛
تصنعُ الانتظار..
القهوة؛
تصنعُ الصباح..
القصيدةُ؛
أرغفةُ الشاعر المتوهجة
الصحراء؛
قلبُ أنثى وحيدة..
الظلُّ؛
امرأةٌ قطوفها ذاتية..
والحبُّ؛
أنت وأنا..”
وهكذا يأتي الشوق بنكهة الرغيف، من دون النظر للكأس الفارغة، وفي زمن الكآبات، والحرب؛ لا تملُّ الشاعرة توصي بالكثير من الوصفات التي تُعيد إمكانية صناعة الحلم، وبناء القصيدة التي تُزهر في ذروة الخريف.. كلُّ ذلك تُقدمها حمّاد من خلال مشاهد – تراكيب أقرب لشغل الفنانة التشكيلية، وأمرٌ لافت في نص الشاعرة مثل هذه (المشهدية)، هنا حيث القصيدة المبنية على ألوان الكلمات، وبرغم أنها ألوان غير صريحة غير أنها تحضر بما يدل عليها، وربما هذا الحضور المُكثف يكون أقوى من الحضور نفسه، وذلك باتساع إمكانية مساحة التأويل، فهي لا تذكر «الأسود» صراحة في تركيبها الشعري، ولكنها تصوّر المساء بجماليات جديدة للأسود، كما أنها لا تذكر ألوان الشفق، غير أنها تأتي بكامل الصباح.. وهكذا في عشرات النصوص، تلوّن الشاعرة قصائدها، وهي تحجزُ لها مكانها اللائق في ديوان الشعر السوري..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار