لا وقت للغزل
أين يمكن أن تجد لحظة تأمل ما دمت في كل لحظة مشغولاً بأمور لا بدّ من الانشغال بها، أجل لا بدّ من أن تشغل بالك فيما يجب ألّا تشغل بالك، إذ كانت قبلاً في المتناول دائماً، من أين يستطيع الكاتب أن يجد لنفسه فسحةً من التقاط فكرة في بستان تحول إلى متاهات دروب لا مجال فيها إلا لأصوات أنفاس اللاهثين وراء لقمة العيش، ألا تطقّ القصيدة من تصوّر نفسها وليدةً في بيتٍ تشكو صاحبتهُ قلّة الجرذان! ولله درّها من إعرابية عاربة، ويالها من كنايةٍ لم تعد تعجبُ سامعاً فطناً موسراً يملأ بيتها سمناً وطحيناً؟!
أيمكن أن تكتب شعراً يمكّن أبناءك أن يستبدلوا بيتاً منه بأجر رحلةٍ واحدةٍ من لوازم لزوم التنقل بين قريةٍ وجامعة، أو يشتري لأحدهم نصف رغيف «حاف»، أتستطيع أن تكتب شعراً وأنت في طابور الأساسيات من ضروريات البقاء مقهوراً من خلفك وورائك تؤمن بالدور مظهراً من مظاهر الإنسانية وتراه زوراً مُباحاً على جانبيك، فعلى أيهما تميلُ؟، إنها لحظاتُ مكاشفةٍ مليئةٍ بالصبّار, ولكنها تحتاج إلى أكثر من صبر، أتحتاج الكتابةُ إلى صبر أم أنّ الصبر يحتاج إلى كتابة، أم أنّ كليهما فقد مرضعته في بيداء العوز فصار الصمتُ أكبر من قدرة المتحلّمين وقد جُهل عليهم؟!.
وعلى الرغم من الثنائيات العجيبةِ الغريبة، والتي كانت مَرةً تتمايز متناقضةً، ومرةً تتآلف منسجمةً، وقد ولّدتْها جيناتُ البساطة حدَّ الدروشة وجينات الدروشة حدً العبقرية لآباء وأجداد صبروا على «أمرَّ» من الصبرِ، عبر سنين عادلت عقوداً، وعقودٍ ضاهت قروناً، وقرونٍ فاقت (…) من القهر والقهر، والجوع والجوع ولكنهم صبروا وعبروا ومازالوا هم القصيدة ونسغها وعطرها!!
ثنائياتٌ كان مُرّاً طعمُها جمعتني بأشلائي ذاتَ كومةٍ من عبّاد الشمس اِصطفّتْ مع مثيلاتها بإيعاز من «عيون» الصبايا الفلاحات قبل «زنودهنّ»، وقد باكرنَ قطافها قبل شروق الشمس، وأنا وصديقي مازلنا على ذلك الجرّار الزراعي الأزرق متنقلين بين أكوام أقراص العبّاد إيّاه والعينان تبحثان بحذقٍ لا بحذر، عن سبّحة قصيدة على شكل حبات الكرز بين ثغور الصبايا، فهل من وقتٍ للكتابة؟!.