عن الإبداع المنتمي وأرجوان سورية وأزرقها

” تحت أوراق الغار السوداء،
تحت أزهار النسرين العاشقة هنا أرقد،
أنا التي عرفت أن تصوغَ الشعر، وتجعلَ القبلةَ تُزهر. ”
ذلك كان آخر ما أنشدت به الشاعرة السورية «بلتيس» – (610-675 ق .م) ذات الصيت الذائع منذ (2400) سنة، والتي كانت صديقة لأهم شاعرة إغريقية في زمانها؛ وأقصد بذلك الشاعرة «سافو» أو (صافو) الإغريقية التي ولدت بين عامي ( 630 و 612 ق. م) وتوفيت عام 570 ق .م.
و(بلتي) أو بلتيس ولدت وعاشت في قرية جبلية تقع حالياً شمال الحدود السورية – التركية من أم سورية فينيقية، وأبٍ هيليني قد يكون سورياً هو الآخر، ولكونها لم تتعرف إلى أبيها، فإن اسمها الفينيقي يدل على أن أمها الفينيقية التي تعلقت بها كثيراً أعطتها إياه.. هذه الشاعرة الفينيقية التي طالما تغنت بسوريتها، سورية التي كما يصفها هوميروس بأنها «أرض الآلهة».
نتذكر اليوم الشاعرة بلتيس؛ لنؤكد أن ثمة إبداعاً ينتمي لسورية الفينيقية العتيقة، إبداعاً تمثّل أكثر ما تمثّل بإبداعين على وجه الخصوص، وأقصد بذلك الشعر، والفنون الجميلة، وفي مجال الأسطورة التي هي التاريخ بصورة متنكرة؛ فإنّ سورية تكاد تكون أنبتت كل أساطير العالم، ومن ثم الملاحم الموازية لها .. والتي لا تبدأ من ملحمة اختطاف قدموس لأوروبا السورية، ولن تنتهي عندها.
صحيحٌ؛ لم يكن لدينا سينما سورية، غير أنه لدينا أفلام سورية، أقول ذلك، لأن ما أنتج من سينما، لم يُشكّل تراكمه إلى الآن سينما سورية لها ملامحها السورية التي تُفارقها عن غيرها من سينما في العالم، وهكذا يُمكن أن نسحب القول للقصة والرواية.
أمّا في الشعر، فلدينا هنا قصائد لا نخطئ عينيها السوريتين، وثمة لوحة، وحتى منحوتة سورية التي تُساوق اليوم الإبداع في العالم، وذلك عبر مجساتٍ تمدّها صوب الأرض العتيقة.
و.. بالعودة لتلك القصائد التي كُتبت باللغة السورية الأم وهي الآرامية أو الفينيقية، حيث تتوضح تلك المرجعية الصلبة، وإن تمّ تغييبها لسنوات بعيدة لصالح ما توفر من الشعر في الجزيرة العربية، وقبل الإسلام، ومن حركة تطور الشعر العربي الذي وصل إلى مرافئه الأخيرة بعدما استنفد كل جمالياته، ولو تمّ الاشتغال على الأدب السوري القديم لما وقع الشعرُ في مأزقٍ يوماً، وهو ما انتبه إليه البعض مؤخراً وقد صارت سورية في الخطر المُحدق على هويتها ووجودها منذ أكثر من عشر سنواتٍ من الحرب والعدوان على سورية بكل مخزونها البشري والثقافي.
فعلى مدى ثلاثة قرون من عام 332 ق.م وحتى عام 30 ق.م، أي ما عُرف بالعصر الهلنستي السوري – دمج الثقافة الهيلينية مع الفينيقية -، فثمة من كان ولا يزال يتحدث عن « مدرسة سورية في الشعر»، وفي كتابه الرائع الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب 2010 (شعراء سورية في العصر الهيلنستي)، يُعدد إحسان الهندي عشرة شعراء أغنوا ذلك العصر بإبداعهم الشعري، ولاتزال حكاياتهم تُلهمُ المبدعين في العالم، وهنا نُذكّر بالأفلام التي أنتجت عن الشاعرة السورية بلتيس التي بدأنا بها حديثنا عن هذا الشعر المنتمي لـ(أرض الآلهة).
وإذا ما ذكرنا اسم شاعر ذائع الصيت هو الآخر، بل قل لايزال يملأ الدنيا، ويشغل الناس إلى اليوم؛ وأقصد بذلك الشاعر (ميلياغروس) الذي أعدَّ أول انطولوجيا شعرية في التاريخ البشري تحت اسم «الإكليل» حاول أن يخلد فيها أسماء الشعراء اليونان والهلنستيين الذين جاؤوا قبله أو عاصروه، حيث اختار لكل منهم قصيدة شهيرة، هذا الشاعر كان أوصى بكتابة شاهدة قبره بهذه القصيدة:
” أيها العابر من هنا
لا تخف من مرورك بين أجداث الموتى المقدسين،
فإذا كنت سورياً، أيها العابر؛
فقل عند قبري: سلام ”
هذا الشاعر الذي يعده بعض نقاد الشعر الأوروبيين الحديثين بأنه «رائد المدرسة السورية في الشعر في مرحلة ما قبل الميلاد».. أما الشاعرة « إيرينا » وهي الشاعرة الوحيدة التي تمّ ذكرها في كتاب الدكتور إحسان الهندي، فقد عاشت خلال النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد في جزيرة تيلوس، وماتت وهي في التاسعة عشرة من عمرها، ومع ذلك فقد قارنها بعض شعراء زمانها بـ« سافو»، وثمة من وجدها أنها كان ستتفوق عليها لو أنها عاشت وقتاً أطول .. وفي قصيدتها «المغزل» التي تضم نحو ثلاثمئة بيت من البحر السداسي تقول:
“النساء ذوات الشعر الأبيض
والكلام الحلو
هن في شيخوختهن
كما الزهور بالنسبة لبقية الناس”.

في المشهد التشكيلي السوري؛ فإن ثمة لوحة منتمية لسورية وحدها، ولاحياة للوحة، والمنحوتة المعاصرتين، من الاشتغال لإنجاز أعمال فنية تكون فيها منقطعة الجذور، أي ثمة هوية سورية للوحة هذا الفنان أو ذاك، تبرزُ، إما باللون، أو بمفردات اللوحة، أو في مواضيعها أيضاً، لوحة لها امتداداتها الشرقية العميقة، وذلك منذ أول المعارض، التي أخذت مفرداتها من ملحمة جلجامش، ثمّ إلى الأبواب العتيقة، وبعدها تستلهم السير الشعبية لعنترة وعبلة وغيرهما، ومن فن الإيقونة، والزخرفة والخط والحروف والعمارة التي لاتزال راسخة، سواء في أعالي الجبال، أو في الصحارى، ولو عددنا الفنانين التشكيليين الذي « بنوا » على هذا القديم، فقلما يتوافر فنان واحد لم تتضمن لوحته شيئاً من هذه الجماليات، وفي سورية تكاد تكون ميزة فنية، في هذا الاتجاه صوب الأرض العتيقة.. وذلك في كل هذه الاستطالات مع التاريخ بأنواعه الشعبي، التراثي، الملحمي، والديني، وأظن أن ذلك ينشدُ أمرين: الأول تحريك الذاكر التراثية، أو إعطاء حياة ما لهذا التراث، وفي المقابل، منح اللوحة شيئاً من السكون، أو العزلة في وجه حداثة لا تلوي على سكون، ومع ذلك تأتي اللوحة – غالباً – بكامل مفردات الحداثة والمعاصرة، أي الشغل على موضوع الذاكرة ليس مبعثه الحنين، كما لا ينشدُ التسجيلية أو الوثائقية، ولا عودة ماضٍ ما، وإنما الإغواء في كل تلك المرجعية هي تقديمُ إبداعٍ بهوية سورية.
فإذا كان البعض يتحدث عن اتجاهات ومدارس، تُعدّ اتجاهات ومذاهب فنية غربية، غير أن الفنان السوري استطاع أن (يُبيّئ) هذه الاتجاهات، وذلك بـ«سورنتها» أي منحها الملامح السورية الخالصة، فهل نستطيع اليوم أن نصف واقعية أعمال الفنان التشكيلي نذير نبعة إلا بالواقعية السورية الصرفة؟!! ثم بماذا يُمكننا أن نقرأ الملامح المحلية الأخرى ولاسيما في اللون عند كل من الفنانين: أدهم إسماعيل، فاتح المدرس، والياس الزيات ولاسيما في شغل الأخير على ملامح الإيقونة..
هنا أيضاً سينتشر الأرجوان الذي اخترعه الفينيقيون، والأزرق الذي هو اللون السوري العتيق في مختلف الأعمال التشكيلية، وثمة ملامح أخرى من عشرات الرموز المثيولوجية التي تزدحم بها سورية، وعندما نقول سورية؛ يعني سورية الطبيعية التي تمتدُّ على مساحة الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط وشماله الشرقي أيضاً، كيليكيا وبلاد ما بين النهرين وبلاد الشام وشبه جزيرة سيناء.
و.. أخيراً نختم بما أرسل به الأسطورة الإله السوري القديم (بعل) منذ خمسة آلاف سنة:
” أبعد الحرب عن الأرض
واقضِ على المنازعات في البلاد
ودع السلام يتسللُ إلى باطن الأرض
ودع الصداقة تنمو بين الحقول.”

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار