في مختاراته الشعرية .. ثائر زين الدين وغواية «المواربات» اللونية واللغوية

“ودونكَ لا شيَء يُشغلُ بالي،
لا الوصلَ،
لا الهجرَ،
لا الخوفَ من لحظاتِ الفراقْ!
ودونكَ ما عدتُ أخشى وشاتي،
وما عادَ يُرهقني الحاسدونَ
ولا زادَ همّي لومُ الرفاقْ.
ودونكَ أصحو فراشةَ حقلٍ,
فأضحكُ،
أرقصُ،
أشربُ إن شئتُ-
حتى الغرق..”
على هذا المنوال من هندسة القصيدة، التي تأتي هكذا بكامل العفوية، وهنا ثمة مُخاتلة في الجمع بين التقنيتين (الهندسة) بما توحي به من دقة وصناعة، وبين (العفوية)، التي تكسر كل خطوط (استقامات) المُصطلح السابق بما تحمله بساطة وحنو الخطوط المنحنية والحانية في المُصطلح الثاني.
وتبدو مثل هذه المُخاتلة، أو ربما المواربة أشبه بالغواية الشعرية لدى الشاعر ثائر زين الدين التي تأتي في غير مستوى سنشير إلى بعضها في سياق هذه المقالة.. زين الدين الذي لا يملُّ يحملُ عدّته كفنانٍ تشكيلي، ليبني عمارته الشعرية كفنان انطباعي يترصد ما تزوغُ عنه العين الاعتيادية، ويرسمُ المشهد خُلسةً بكامل ألوانه.. وليس غريباً على ثائر زين الدين مثل هذه العمارة اللونية في القصيدة الشعرية، وهو الذي اشتغل طويلاً على قراءة النصوص الإبداعية من شعرٍ ورواية من منظور الناقد التشكيلي، عندما لاحق تجاور الألوان وانزياحاتها، وكذلك تأويل الخطوط، والتكاوين والخلفيات في المشهد الشعري للقصيدة والرواية من خلال قراءته لعشرات القصائد، ومثلها عشرات الروايات؛ فاتحاً باباً آخر في التنويع النقدي، ومفهوماً جديداً في النقد.
وحديثنا اليوم عن تجربة الشاعر زين الدين الذي في رصيده اليوم ما يتجاوز الستين كتاباً في الشعر، والنقد، والترجمة؛ هو الكتاب الذي أعدّه كل من الأديبين: جهاد عقيل، وفيصل أبو سعد، كتاب الـ(مختارت شعرية)، أو كما عنوناه بـ«ثائر زين الدين – مُختارات شعرية».. وخلال هذه المختارات التي جاءت من مناخات الحب على وجه التحديد، بمعنى؛ كانت شواغلها الأساسية تنويعات على مفهوم الحب في عالمٍ يذهب بعيداً، وأحياناً يتوغلُ، ويتغوّل في الكراهية واليباس والقحط.
مُختارات شعرية، اختارها الكاتبان بعناية تُماثل هدوء، وتأمل الشاعر نفسه في بناء لوحته الشعرية، حيث كلّ تجاور لوني مقصود، وكذلك كلّ انزياح، وكل تكوين، وكثافة، وخلفية سواء جاءت تجريداً لإغناء الحالة الدرامية، أم جاءت تشخيصاً بصياغات بصرية لونية مقصودة.. أقول بعناية لدرجة لم ينسَ الكاتبان زمان كتابة القصيدة، والتي يبدو أنها جاءت من بدايات التجربة، أو ربما بعدها بقليل خلال تسعينيات القرن الماضي، وحتى كامل العقد الأول من القرن الحالي، وذلك كما تُشير إليه التواريخ المُزيّلة في خواتيم النص الشعري، وحتى أحياناً كثيرة يُضافُ اسم الشهر إلى السنة التي كُتبت خلالها القصيدة، وأيضاً اسم المكان (السويداء، حلب، أو مدينة ما، في روسيا).. الأمر الذي يكشف على غير مستوى في الكتابة، هنا من خلال هذه (الزمكانية) في كتابة القصيدة؛ يُمكن تخيّل الدافع، والمُحرّض للكتابة، وتخيّل الباعث الشعري سواء كان امرأة ما، أو حتى مكاناً، وظرفاً مُعيناً، وبما يوحي به الأمر كذلك من الصدق الفني في الكتابة، وهو يختلف بالتأكيد عن الصدق المُتعارف عليه..
“لا شيَ يعنيني:
سأسقطُ كاليراعةِ تحتَ ثوبكِ
سوفَ أبحثُ عن مكانٍ آمنٍ أغفو إليه،
وسوفَ أطربُ للعروقِ،
تضجُّ بالفرحِ الخفيِّ.
وكما اقتراحاتُ الفنان التشكيلي في لوحاته، فتارةً تأتي مقاسات اللوحة من حجم الجدرايات، وأحياناً من مقاسات (مترٍ بمترين) على سبيل المثال، وطوراً يكتفي بحجم اللوحة الصغيرة، وهكذا زين الدين، فهو مرةّ نراهُ يسترسلُ في (المتواليات) الشعرية، ومرة نجده، يكتفي بنصٍّ على مدى صفحة، أو صفحتين، وأحياناً يستعذبُ الومضة الشعرية السابحة في بحر البياض.. وهو حتى في متوالياته الشعرية، يترك الخيار لمتلقي قصيدته، أن يُرافقه في كلّ منعطفات المتوالية حتى خواتيمها، أو يكتفي بمتوالية، أو متواليتين ويحصل على الزبدة الشعرية الخالصة..
ومثل هذه (المُخاتلات)؛ تتكرر في غير مستوى من بناء القصيدة عند ثائر زين الدين، ليس من الحجم ومقاس القصيدة، أو تجاور العفوية والهندسة معاً، وإنما حتى في اللغة التي يُجمّع قاموسها اللغوي من أزمنة مُختلفة، مابين لغة اليومي والمُعاش، وما بين استعارة مفردات من القواميس البعيدة، وهنا أيضاً يُقارب الفنان التشكيلي الذي يبني عمارته اللونية المُعاصرة متأثراً بمناخات الجماليات البعيدة من حضارات سورية العتيقة.. وهو في كل ذلك غايته تقديم (سهله الممتنع).. في مسيرة تقفٍّ لقصائد حوت عصارة عشقٍ لشاعرٍ مُتمرس، يخطُّ الشعرَ برؤوس مشاعره، ويُسرّح ذؤابات القصيدة بأسنان مشط إبداعه، أسير التخوم والانزياحات، حبيس أنفاس النساء بشاعرية عاشقٍ مُتنقلٍ كقطرةٍ دلفتْ متلهفةً بين شفتين من كرز، ونهدين من عاج.

قصائد تستوقفنا عناوينها المنوعة، سواء على لسان الشاعر المتوقد، أو على لسان نساءٍ تنوعت أحوالهن وظروفهن، وهذه مُخاتلة أخرى في الخطاب الشعري عند ثائر زين الدين، بمعنى أن تكون القصيدة مرةّ بضمير العاشق، وأخرى بضمير العاشقة.. هنا على بوابات المنافي، وفي كلّ مكانٍ حيث يضع قدمه، كانت تتواجد الأنثى التي تزيحُ صقيعَ الغربةِ وتدفئُ بردَ الشتاءات الحزينة.
فبلسان أنثى الأربعين يقول:
“لم تثر في دمائي الزوابعَ،
لم تكسر الريحُ
داليةَ الياسمين؛
امرأة مكسورة الأمل
انشري الآن ملء الفضاء
جناحيك،
فالعمرُ ضوءٌ شحيحٌ،
سينجو غداً
فإذا كنتِ محظوظة
بعد غدٍ..”
وفي مشهدياته، ومُشاهداته؛ كثيراً ما كان لبدر نيسان حصته في كون الفضة، لشاعرٍ خطّ حروفاً من جمانٍ على شرفة المساءات، إذ سيبقى للشاعر أمنية أخيرة تطلُّ من علوها على تلة (القليب) التابعة لمدينته زمان (الولدنه) والحب الأول، المدينة التي تُداعب جسداً من ورق.. وأمام بوهيميا الفراق؛ نصٌّ بتناقضاته يقودنا إلى عالمٍ مُغاير، تتصارعُ فيه البدايات والنهايات، الحبُّ والفراق، البقاء والعدم.. هنا ثمة رحيلٌ لا يليقُ بحبيبة تلمّ حوائجها، وتخرجُ من ردهة الروح لا من ردهة البيت، صوت يبحّ، ويضيع في عتمة الحنجرة، ويدٌ تتيبس عن منعها، وكان الفراق الذي لايشبه إلا الموت..
وللشاعر حكايته مع المرأة السودانية السمراء المفرطة الأنوثة (سلمى)، التي قدم لها اعتذاراً، يستميحها وفاء لحبيبةٍ شامية… كان لطيفاً معها حتى في صدوده .. يُناجي قلبها أن تنساه ليعود إلى محبوبته المعجونة من حليب اللوز، والمضوعة من عطر الخزامى ورحيق النرجس..
“عيناها… كعينيك تماماً؛
تذبحُ العاشقُ
من حبلِ الوريد
إلى الوريد…”
وفي حضرة القصيدة الأرّق (حسرتان على الوسادة)، يقفُ القارئ مشدوهاً بجمال وعذوبة السبك والحكائية التي نسج فيها الشاعر قصيدته، بجمالٍ يثير صبابة القلب حدَّ البكاء، قصيدة بزمانٍ ومكانٍ وشخوصٍ وحبكة؛ ترميك ثملاً في قفلة الإدهاش.. أمام ما رسمه الدمعُ من حسرتين على الوسادة بعد حلمٍ أضاع بوصلة العشق بين حيرة الأسئلة العمياء..
تنوع استخدام الشاعر لأساليب الكتابة؛ ما بين خبرٍ وإنشاء، بإخفاءٍ، وتضمين، ولايخفى التناص في قصيدة (بسمة).. إذ أورقت القصيدة في حضور عالمٍ ميثولوجي مُبهر، يعيدنا إلى سفينة نوح والحمامة والغصن.
“حينما أوشكت ماءُ اليأس
أن يغمر أعلى ذروةٍ في الروح؛
رفرفت بسمتك البيضاء
مثل حمامة
ألقت بغصنٍ أخضر
في كف نوح.”
وجديرٌ بالذكر أن (المُختارات) بمكنوناتها الثّرة، خُتمت بومضات شعرية، تستوقف القارئ بنهاياتها المباغتة، وتحدث فيضاً من الدهشة، وتسرب الجمال والإبهار إلى عمق القارئ.. (دعاء، زهرة، وردتي، انتظار، قطرة، بستان، رحيل، عتب..)، ومن ثمّ لتُختم بقصيدةٍ تحملُ بعداً خاصاً لصديقين حددهما الشاعر، تحملُ إحداها عنوان (سيزيف) في تضمين لأسطورة تُعيد برمجة حياة شاعرٍ حمل حجره، وصعد به غير آبه بما يهرسه من ضلوعه أو يخلفُ من تكسير.. كلّ ذلك يُقدمه زين الدين بتقنيات قاصٍّ لا يخشى لومة ناقدٍ من إدخال تقنيات السرد القصصي في النص الشعري، فيما سُمي بـ (الكتابة عبر النوعية)، وتماهي الأنواع الأدبية في السرد..
إذ يسرد الوقائع والأحداث؛ التي مرّت كبروقٍ مُفترشةً ضوءها فوق بياض المخيلة، ومقيمةً أبديّةً فوق أسرّة القصيدة، لا تملُّ تنوّعُ الأمكنة بين الشرق والغرب، ما بين السويداء الأرض- الأم، وروسيا والخليج ودمشق والسودان.. وأما الشخصيات المهيمنة فكانت تلالاً من النساء اللائي أثرن كل ما في روحه من مكنونات الحب والعشق والجمال والرقة، وأثرن في فضاءات أمكنته عشقاً معلقاً بشهوانية على جدارات أزمنته المتنقلة في استخدام الصور الناطقة حيناً، والمغرقة بجمال الصّمت أحايين أخرى.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار