حواكير ونبع العين .. وثقافة دفء البيوت الطينية بين حارتين

إذا كُنّا نرتبط بمكانٍ ما، فذلك يعني أن قدر ذلك المكان أن يكوّن شخصية من عاش تفاصيله لزمن، سواء قصر ذلك الزمن أم طال، وإذا ما كان ذلك المكان؛ هو مكان الولادة، او ما اصطُلح عليه بـ «بمسقط الرأس» فسيبقى يشدُّ المرء المولود فيه من وسطه على مدى الأيام، وأن لفّ الكون كله، ليكون «مسقط الجسد» في خواتيم العمر.‌‏
من هنا يبدو السؤال حارقاً، ماذا تعني ولادتنا في هذه الزاوية من العالم – كما تساءل يوماً الأديب التركي صاحب جائزة نوبل أورهان باموق – وفي هذا التاريخ أيضاً؟ هل هو خيار عادل لهذه العائلة أو هذه الدولة، وهذه المدينة، أو القرية المقدمة إلينا كأنها جائزة يانصيب ؟.‌‏
لزمنٍ قريب جداً‌‌‏
حتى عهدٍ ليس بعيداً ربما يعود إلى ما بعد النصف الثاني من القرن العشرين بعقودٍ ثلاثة، حينها كانت أغلب القرى السورية، لاسيما في جهة الغرب الساحلية، تلك القرى، وكأنها قُذفت من علٍ كيفما اتفق، هناك على السفوح، وأكتاف الجبال، حيث استطابت العيش على الأغلب في حارتين: الحارة الفوقانية، والحارة التحتانية.‌‌‏
هنا حيث تأخذ الحارة امتداداً طولياً بما تسمحُ به وعورة كتف الجبل، وحفافيه، وقد تكبر المسافة وتتسع بين الحارتين، حسبما تجود به جغرافية المكان؛ وغالباً يكون تأسيس الحارة الشمالية أو الفوقانية من (جريءٍ) أو مُبادرٍ؛ ضاق المكان به، ولم يسمح بما بقي من «بؤر» بما يُمكن أن يُوفر للمرء أن يبني منزلاً، ثم يتبعه مغامرون آخرون، كان عليهم أن يقاتلوا طول الوقت ضباعاً ولصوصاً وجندرما عثمانية بغيضة.‌‌‏
تلك كانت قرى الطين وحاراتها، حيث بضعة معالم كافية لإنشاء قرية، مع أنها قد تكون غالباً قائمة على أساسٍ «خراب» فينيقيّ، قديم، وقد تأخذُ الاسم الفينقي عينه، وهذا ما تؤكده الأسماء الفينقية والسريانية العتيقة في مختلف القرى السورية لاسيما الساحلية منها.‌‌‏
معالم؛ تبدأ من نبع العين الذي يتفجر من بين الصخور تحرسه أشجار الدلب بحنان، وغابة سنديان أو قطلب، ومزار عتيق في قمة الجبل شاهدٌ قديم على وقائع السهوب.‌‌‏

السطوح الواحدة‌‌‏
تلك كانت القرية السورية، حيث الحارة القائمة على جدرانٍ مشتركة، إذ يقوم «البيت» على غرفتين، كل غرفة بـ «صيباتين» الأعلى لناس المكان، والأدنى قليلاً لحيواناتهم، والغرفة الصغيرة ذات الروزنة – فتحة في السقف -؛ فهي لمؤونة ساكني البيت من إنسان أو حيوان، هذا البيت الذي كان يأبى التفرد والابتعاد عن البيت الذي يليه، فغالباً ما كان الجدار الأخير مشتركاً مع المنزل المجاور، كما يشترك معه بفتحة – شباك – وهكذا بالتتالي في نظام عمارة الحارتين، ذلك الشباك الذي كان بمثابة (الهاتف الداخلي) بين البيوت التي تحنو على بعضها بتلك الجدران المشتركة، لاسيما في حالات الخطر كمرض مفاجئ، أو تهدم حيط أو سقف، أو اختلال توازن ساموك أو منارة – أعمدة المنزل ذلك الزمان -، كما ولادة بقرة، أو مرضها، وحتى غزوة لصوص، وتلك السطوح التي تتصل ببعضها، حتى كان يمكن «عرجنتها» – دحلها – بمعرجلينة واحدة – مدحلة صغيرة – لسد الشقوق خلال أيام الشتاء الطويلة.‌‌‏
كروم من عنبٍ وتين، ‌‌‏وما بين الحارتين كانت تقوم الحواكير – مدرجات حقلية صغيرة – التي كان عليها أن توفر كل أنواع السليق وكروم العنب والتين والزيتون، وحتى الدخان والبندورة والعجور..‌‌‏
ذلك ما كان عليه شكل القرية السورية في أغلب المناطق لاسيما الجبلية منها، بحميمية التجاور، ومن ثم هذه المعالم المشتركة من أقسام البيت مع البيت المجاور، والذي ليس بالضرورة أن يكون أخاً أو ابن عم، حتى ليبدو البيت مهيئاً دائماً للدفاع ضد عدو؛ سواء كان حيواناً أم عواصف، أم لصوصاً، وحتى جندرما محتلة غاشمة.‌‌‏
تلك الأفقية؛ هي من وفرّ ذلك التجاور الدافئ، قبل أن تفتقده وتزيله العمارات الشاقولية، والأبراج، حتى لم يعد يعرف المرء من يسكن بجواره، تحته أو فوقه، ذلك الزمان الذي استمرّ طويلاً، وانتهى مع بداية ثمانينات القرن العشرين.‌‌‏
وهنا نُشير إلى قرى لايزال بعضها صامداً في معركة البقاء؛ وأقصد بذلك «قرى الطين» البيوت الغامضة وسط سهوب البادية (وادي الفرات الأوسط، حوض دمشق) في زمنٍ مضى، واليوم جنوب حلب وجبل الحص، قرى: أم الفشافيش، الشيخ هلال، صوران، بزاعة، العريمة، السفيرة، رقاص، والعمارنة، تلك القرى التي تأخذ شكل القباب وتأخذ شكل التجمعات في السهوب والصحارى، وهي تختلف في شكل عمارتها وامتدادها عن قرى الجبال الساحلية، وهنا نذكر أنّ أقدم نموذج للجدران الطينية الملونة في العالم اكتشف في جعد المغارة بمحافظة حلب..‌‌‏
من زمان بعيد‌‌‏

وإذا كانت عوالم قرى الطين قد اندثرت على سفوح الجبال والهضاب، فإنّ العمارة الطينية قديمة، تكاد تكون بقدم الإنسان ذاته، فسور الصين العظيم شُيّد من الطين والتراب الخام، كما طوّر الأشوريون هذه المادة في القرن السابع قبل الميلاد، حيث استخدمت في بناء برج بابل، كما كان عماد حضارات كثيرة – بعضها مرّ من هنا – كحضارات ما بين النهرين، ومصر الفرعونية، والرومانية والهندوسية، وحتى حضارات هنود الحمر والمكسيك.‌‌‏
ولحكاية الطين الذي يُدمره العدوان السعودي الوهابي اليوم حكاية آثرة، فقد ظلت العاصمة صنعاء على مدى الأيام؛ جوهرة الحضارة الطينية الصامدة لما اشتملت من أبراج وطوابق الطين، التي وصل بعضها حتى الثمانية طوابق، وقبل أن يُدمر السعودي صنعاء القديمة كان يوجد فيها ما يُقارب من أربعة عشر ألف منزل في مكان واحد، عمر بعضها يتجاوز الخمسمئة سنة.‌‌‏
تلك العمارة التي وفرت حميمية التجاور الأفقي في الضيعة السورية، أمنت أيضاً لناس المكان الذين فُرضت عليهم ظروف القهر من عدوان البشر أو الحيوان والطبيعة، «طيب عيش» في دفء شتاءات برياحٍ صرصر، وبرودة أصياف بهواجر لاهبة.‌‌‏

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار