هل يُفلس المُبدع وهل يشـيخ الإبداع ..؟!!

لم يقتنع الأديب الذي تسلم العديد من المناصب الثقافية، في طول مؤسسات الدولة وعرضها، وفي ارتفاعها أيضاً؛ أنه بلغ الستين من العمر، وبناءً على هذه الدرجة العمرية؛ عليه التقاعد، وأن يُودّع كرسي الثقافة إلى الأبد.. هكذا بدأ احتجاجه على صديقه الشاب حيث كان الأخير يُعاتبه أن بيده كان الكثير ليعمله لوجه الثقافة الخالصة، لم يقتنع، برأي صديقه الشاب، فمن وجهة نظره لقد فعل الكثير، وهو حزينٌ اليوم، وهو يُشير إلى رأسه، ويقول: كيف لهذا أن يتقاعد؟!، ويقصد الدماغ، وكأنّ الدماغ لا يُنتجُ إبداعاً إلا على كرسي المسؤولية، وهنا لسنا في معرض تقييم ذلك الكاتب- المسؤول الثقافي، ولا تقييم نتاجه الإبداعي طوال مسؤوليته، ذلك إن حديثنا في هذا الحيز من المقال حول الإبداع في «أرذل العمر»!!.
ففي معظم التفاسير والمعاجم؛ التي تُفسر معنى «أرذل العمر» فإنها تكاد تجمع على أن أرذل العمر؛ هو أردؤه، أي أردأ مراحل العمر.
لكن ليس هنا تكمن شواغل هذا المقال أيضاً، أي الحديث عن أرذل العمر، لكن هنا نحكي عن أهمية الإبداع في هذه المرحلة، بمعنى إذا كان الإبداع لا يشيخ، فهل المبدع يشيخ ؟!، وعليه أن يتوقف عند سن محددة عن النتاج الإبداعي حتى يحتفظ بتلك الصورة الزاهية التي تركها عند متابعيه ؟!‏
شيخوخة المبدع‏
بداية ليس من أمر في هذا الكون ليس له «سن تقاعد» بما فيه الإبداع نفسه، وهي مرحلة يُفترض بالمبدع أن يتقاعد خلالها، ويرتاح مطمئناً على «بنك» الإنجازات التي قدمها خلال السنين التي مرت.‏
ذلك أن ثمة التباساً هائلاً في مسألة النتاج الإبداعي خلال مراحل العمر، ذلك أن المبدع، وفي مختلف مجالات الإبداع، يبقى يُراكم ذلك النتاج في تلوينات وتنويعات، ويقوم بمنعطفات تقوّم أو تنسف ما تقدم من تفاصيل في التجربة، وحتى قد تنسف التجربة بكاملها، والاتجاه صوب شكل آخر من الإبداع، غير أن النتاج الأخير؛ سيكون هو الأخطر في تجربة المبدع، ذلك لأن هذا النتاج؛ هو ماسيبقى عالقاً في ذهن المتلقي الذي قد يكون تابع تجربة المبدع في كل منعطفاتها، أو قد يكون ذلك المتلقي لم يقرأ أو لم يعرف للمبدع غير ما تعرّف عليه أخيراً من نتاجات جديدة، وقد أصبح المبدع قاب قوسين أن يجتاز البرزخ صوب عوالم أخرى التي لا يعرفها إلا من سبقوه إليها.‏
هنا.. أردد كلمة المبدع، لأن الالتباس هنا مشترك بين مختلف المبدعين كافة، على تنوّع النتاج الإبداعي الذي يقدمونه؛ سواء في المسرح، أم في الدراما، وفي الأدب، وفي الأنواع الإبداعية كلها. وخطورة النتاجات الأخيرة، تكمن في أن من يُتابع النتاجات الأخيرة للمبدع؛ فإنه يقرأ فيها سنوات التجربة بكاملها، سنواته التي تكون قد وصلت، أو هي قاب قوسين من الثمانين، تلك “الثمانون” التي سئم منها زهير بن ابي سلمى:‏
سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش..‏
ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ..‏
الثمانون حولاً
اليوم نادراً ما يسأم المبدع من «ثمانينه»، ولا يصدق أن مستقبله صار خلفه وليس أمامه، برغم حالة «بيضة الديك» التي تنتاب النتاجات الإبداعية ليس في العالم العربي وحسب، بل هي خاصية لكل المبدعين في مختلف مناطق العالم، ذلك أن المبدع يبني مجده بالكامل على نتاجٍ واحد، أو على الأكثر «ثلاثية», والأمثلة أكثر من أن تُعد أو تحصى في هذا المجال، ومن ثم فإن “الإضافات” التي يظنها إبداعاً، لا تضيف إلى نتاج المبدع أي «مل غرام»، أو «مل متر»، ألم تكن “مئة عام من العزلة” هي درة التاج في كنز الكاتب الكولومبي ماركيز، مع إنه عاش ليروي، كما هي “الخيميائي” التي بقيت لكويلو المصرف الذي تحدى الإفلاس، وبقي يُعطي صاحبه على مدى الأيام.‏
ذلك في العالم، أما في العالم العربي، فالأمثلة أشدّ وطأة، هل كتب حنا مينة أجمل من ثلاثيته الروائية « حكاية بحار، الدقل، والمرفأ البعيد » ألم يتمنى الكثيرون على الشاعر السوري محمد الماغوط، لو توقف عن الكتابة قبل عشرين عاماً على الأقل من كتابة زاويته في صحيفة محلية، والتي تمّ جمع تلك الزوايا في كتاب، تلك الكتابات التي أجمع عليها حتى محبو محمد الماغوط على أنها أقل بكثير من إبداع هذا الشاعر الاستثنائي في بدايته، وفي هذه المناسبة كما انتابنا الحزن ونحن نشاهد الكثير من عمالقة الطرب الذين خسروا الكثير من أرصدتهم وهم على المنابر، كان يمكن توفيرها لـ “أرذل العمر”.‏
الساحة الخاوية‏

ربما إصرار بعض المبدعين على النتاج في ذلك العمر (الرذيل)، هو تلك الهالة التي تشكلت حول رؤوسهم كما القديسين، وذلك بفعل عوامل كثيرة، أغلبها كان من دون وجه حق، وهذا بالتأكيد ليس تقليلاً من أهمية ما قدمه هؤلاء الرواد في مختلف مجالات الإبداع، لكن البعض منهم؛ كانت الهالة التي تشكلت حول رأسه، ببساطة لأنه لم يكن في الساحة أحدٌ سواه، ومثل «حديدان» هذا الكثير، البعض الآخر كان محسوباً لإيديولوجيات معينة وكانت تلك موضة تلك الأيام، أي أن يكون لكل حزب معين – على سبيل المثال – مبدعه، وهي حالة مستمرة من أيام القبيلة العربية، حيث لكل قبيلة شاعرها ومبدعها، ومن ثم لا يقبل ذلك المبدع الذي اعتلى المنابر لأزمان طويلة أن يترجل عن صهوتها، ببساطة لأنه لم يرّ في الأجيال اللاحقة فرساناً تُعادل فروسيته.‏
أدونيس‏
لكن أليس ثمة استثناء في هذا المجال، بمعنى هل كل الذين وصلوا لأرذل العمر كانت نتاجاتهم الأخيرة، أقل شأناً مما قدموه في بداية يفاعتهم وفتوتهم ؟!، هنا سيشير العشرات – وأنا منهم – إلى المبدع السوري أدونيس، وربما هناك أيضاً أكثر من مبدع غير أدونيس، لكن نُضيف أيضاً؛ هل هؤلاء «القلة» تعني غير الاستثناء، أي بقوا استثناء ولم يشكلوا قاعدة أبداً، ذلك أن قلة من هم بحجم أدونيس، ذلك المبدع الذي أذهل الجميع في بدايته، ومن ثم بقي يذهلهم ويذهل نفسه قبل الآخرين في انقلابه على نفسه، بمعنى ترسيخ ما كان قد زحزحه في بدايته، وربما حرّك ما كان قد رسخه في زمنٍ ما، وغير ذلك الكثير الذي جعل منه شاباً مبدعاً على مدى الأيام.‏

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار