عيدان ثقاب

كان لديها خيالٌ واسع، وهي صغيرة السنّ، تضفيه على حكاياتها بكل ثقة وتمضي في التفاصيل من دون أن تحفل بردود أفعال سامعيها أو تلقي بالاً إلى أسئلتهم، ولعلها لم تكن تطلب أكثر من رمي حصاة في ماء بركة، لتستمتع بالصوت ثم بالدوائر فوق سطح هذه البركة! في إحدى حكاياتها أن فتاةً صغيرة، جميلة، طيبة القلب، منسدلة الشعر، أنيقة الملابس، كانت تلزم عتبة بيتها على كرسي خيزران، ترقب العابرين وترى الأطفال يلعبون ويصخبون قبل أن يغيبوا عن ناظريها! وحين كبرت وصارت مشعّة بالجمال مرّ فارس الحكايات وإذ توقع السامع أن تلبي الصبية دعوته ليردفَها خلفه على الحصان، سيُفاجأ أنها بساقين من عيدان الكبريت!
كانت صدمة عنيفة لمشاعرنا الغضة، تلك العيدان الهشة التي سينهار كلُّ شيء تحمله إذا ما تحرّكت ولو من أجل الحياة، وبطيئاً، ستغرق الحكاية الخرافية في الواقع والنسيان، حتى يعيدها الوعي في ثوب آخر: المال! المال المنقذ من البؤس! المال معجزة الوجود الذي لا معنى له إذا لم تطفح الخزائن به! المال الذي لا صبر نستلهمه حتى نجمعه لأنه يحتاج إلى كفاح وتعب ونصَبٍ وضنى، لكن هناك وسيلة سحرية لجلبه، هي “اليانصيب”! والنصيب في حدّ ذاته في غياهب المجهول مثل الحظّ، فيا “نصيب” تعال إليّ ليس خبطَ عشواء، بل بفتافيت أرميها لك من مالي القليل بين آن وآن وأنا على عتبة الباب وكرسي خيزران، أنتظر الثروة التي ستمنحني القطعان والأراضي الزراعية المترامية والزواج السعيد بذريته الصالحة، على طريقة صاحب جرة العسل في الحكاية أيضاً!
في عصرٍ يُفترَض أنه خلا من الحكايات الخرافية، هناك حثٌّ لا يفتر على الكسب السريع: إعلانات، دعايات، عروض، تزيين ذهني، أرقام بأصفار، إغواء «وهو غرائزي دائماً» تحوّل إلى مطاردة حقيقية في الليل والنهار ورصَد الذهن لعالمٍ موازٍ للواقع البائس الذي تلاشت منه قيمٌ إنسانية أصيلة هي تقديس العمل، وسيلة للكسب الذي يبني باتجاهين: العالم الواقعيّ والثروة الشخصية، فمالٌ يأتي بلا جهد هو عابر له ساقان من عيدان كبريت، ومالٌ يأتي من جهد هو ثمين يُحافَظ عليه كحفظ الذات كما جاء في حكاية من الموروث الشعبي أيضاً، عن ذاك الفتى الذي أجبره أبوه على العمل ما دام يعيش تحت سقف العائلة، وراحت الأم المتواطئة تعطيه قطعة ذهبية يقدمها للأب مساء كل يوم على أنها أجر عمله، فيرميها الأب الحكيم في موقد النار، حتى إذا نفدت مدخرات الأم واضطر الفتى للعمل مقابل إيوائه في البيت، انقضَّ على أبيه حين رمى قطعة النقود في الموقد: تعبتُ مقابل هذا الأجر، فبأيّ حقٍّ تضيعه؟؟ وقتها أدرك الأب أنه وضع ابنه على الطريق السليم!
بسيطة هي معادلات الحياة مهما اضطربت بالسراب والخدائع والبرق الخلّبي و”الحداثة”، لأن خير الحداثة هي قيمٌ أنتجتها التجربة البشرية-الإنسانية ومن دونها لا يمكن أن تواصل البقاء والبناء والمسير والازدهار…

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار