شعراء يتحدّثون عن تجاربهم.. وأعضاء لجان تحكيم يردّون على المشككين
شهدت الحركة الثّقافية السّورية في السّنوات الماضية منح المؤسسات الثقافية الرسمية جوائز متعددة للأدباء سواء أكانوا شعراء أم قاصّين أم روائيين، حاملةً أسماء أعلام في تاريخ الأدب السّوري خصوصاً والعربي عموماً، كجائزة نزار قباني وعمر أبي ريشة… جوائز لاتزال تثير التّساؤلات حول أهميتها للطّرفين وحول نزاهة اللجان التّحكيمية ومعاييرها، كما تثير الفضول لمعرفة ما يعنيه الشّعر لناظمه ولحظة صناعته القصيدة، يقول الشّاعر قاسم فرحات الحائز المرتبة الثّانية بجائزة نزار قباني عام 2017 عن مجموعته «شرفات الحنين»: وبنيت عرزال القصيدة
قرب ساقية الطّيوب
إنّي أشاهدها
تراقص سيّد المعنى
على إيقاع نايات القلوب
هو في مهمته
يرتّب فتنة
سرحت على أحداقها
ويزيح عنها صمتها
ويذوب في أشواقها
فتطول سنبلة الكلام
حتّى يخيّم شعرها
فوق الغمام
أمّا كيف تولد القصيدة وتنضج فيوضّح الشّاعر إبراهيم منصور الحائز المرتبة الأولى بجائزة نزار قباني عام 2017 عن مجموعته «قدس أقداسك يا بنت» كذلك المرتبة الأولى بجائزة عمر أبي ريشة 2020 عن قصيدته «سرائر العشق»: في البداية كانت القصيدة ردّ فعل على موقف حياتي أو تعبيراً عن رغبة معينة، لكن لاحقاً ومع القراءات المتكررة والتّورّط الأكثر جدّية أصبحت المسألة تنحو منحى جمالياً وبدأ البحث عن نصّ جديد وتحميله آراء جديدة وصناعة العمل الفني أكثر من التّعبير عن المشاعر… ليس حرفةً إنّما صناعة وشغل وبحث وقراءة مستمرة، تجعلني مسؤولاً عن نصّي فقط لأنّ المسؤولية كلمة ضخمة وكبيرة.
ولا يتفق الشّاعر غدير إسماعيل الحائز على المرتبة الثّالثة بجائزة عمر أبي ريشة 2020 عن مجموعته «مالم يسجّل في قلب الانتماء» مع منصور حول أن القضية ليست صنعة بالمطلق، فيقول: القضية ليست كيمياء معقدة وإن كنت لا أميل إلى أنّها عمل محض أو صنعة بالمطلق.. هناك شيء سماوي وقد أكون مصيباً أو لا، وهو شيء خارج الإرادة البشرية ويأتي ليعطي تفاعلاً بين الموسيقا والكلام الشحنة العاطفية التي تسمّى الشّعر ويحوّل الكلام المنظوم إلى شعر، والإلهام هو هذه الحالة التي نستطيع من خلالها التقاط الصّورة التي تتخايل كالشّمس يوم طلوعها أمام أعيننا من دون أن يدركها الآخرون وتكون من نصيب المجتهد.
الصّورة من نصيب المجتهد والجائزة من نصيب من يقع عليها إجماع لجنة التّحكيم المكلّفة والمسؤولة عن قراءة كلّ النصّوص المتقدمة للمسابقات ومن ثمّ تقييمها ووضع العلامات، وهذه كلها كانت موضوع نقاش في لقاء «الأوائل الأدبي» الذي استضافه المركز الثّقافي العربي في العدوي احتفاءً بالفائزين بهاتين الجائزتين، يقول الأديب نزار بريك هنيدي: عالمياً درج المنظّمون على تسمية كلّ جائزة باسم شاعر أو مبدع لتأكيد قيمته كمثال يحتذى، وكذلك الأمر في سورية هذه محاولة من أجل استحضار الإنجاز والإبداع الفني له وإعادة تأكيد مدى حضوره في الوجدان الشّعري السوري والعربي، أمّا الهدف من مهرجانات كهذه؛ فهو التّعرف على المواهب الجديدة من الشّعراء وتقديمها للجمهور ولاسيّما للشعراء الذين حققوا حضورهم المميز ونالوا الجوائز المقدمة من وزارة الثقافة بوجود هيئات تحكيم مشهود لها بالخبرة والذائقة الشّعرية.
ويتحدّث هنيدي عن النصّوص التي تقدّم لمسابقات كهذه، يقول: هذه مسألة ذات شجون ونحن محكومون بالنّصوص المرسلة، لذلك لا يمكن أن نعدّ فوز شخص ما أنه تتويج له أو جعله أميراً للشّعراء أو تأكيد أنه امتلك أدواته الشّعرية، هناك مسابقات يتقدّم لها عدد محدود وفي مسابقات أخرى تكون النصّوص ضعيفة ونحن نختار الأفضل من بينها، وهناك مسابقات يتقدّم لها جهابذة كبار وقد لا يفوزون، طبعاً هذا الكلام لا ينطبق على كل المسابقات ولا على من يحضر معنا اليوم، لأنّها مواهب حقيقية، لكن الفوز بمسابقة ما لا يعني أنّ الشّخص أصبح يمتلك ناصية الشّعر.
ويخوض الأديب والنّاقد الدّكتور عاطف بطرس في تفاصيل عمل اللجنة أكثر فيقول: لا أريد التّحدّث عن نزاهة مطلقة في لجان التّحكيم، لكن اختيار اللجنة هو موقف مبني على تجربة وخبرة حياتية أي عندما يتم اختيار اللجنة لا يتم الاختيار عبثاً بل بناءً على دراسة موضوعية، ومن حق المشكك أن يشكك بالمصداقية ولكن عندما ندرك الآلية التي يتم التعامل بها ينتفي أي شك، موضّحاً: تقدّم القصائد لنا وهي مغفلة الأسماء وكلّ عضو يقرأ النّصوص ويضع علامة لكلّ نصّ والقيم المعيارية شبه موضوعية فالشعر لم يعد انطباعاً فقط، والنّاقد يدرك كل هذا والشّاعر كذلك، تجمع العلامات ويؤخذ المتوسط الحسابي وهذا العمل يعهد إلى لجنة أخرى ثم يطابقون بين الاسم وبين النّص ونحن لا نعرف من الذي فاز.. قد أكون وضعت علامة جيّدة لشاعر وزميلي وضع علامة وسط، النّص الأوّل غالباً عليه إجماع مئة بالمئة وربّما الثّاني، لكن المفارقة التي قلّما تحصل معي هي أن يضع أحد النّقاد تسعين والآخر عشرين!! هذا غير مقبول هنا يمكن أن نعيد النّظر بتشكيل اللجنة.
مسؤولية كبيرة وعمل شاق قد لا ترضي نتيجته كلّ المتقدمين ولا النّقاد، لكن ماذا عن عضو لجنة التحكيم ذاته؟ يوضّح هنيدي: لجنة التّحكيم قادرة على قراءة النّص وتحكيمه، الجائزتان اللتان أشترك بتحكيمها نعم راضٍ بشكل ما على اختيار النصوص الفائزة لأنّها تحمل مجموعة من القيم الفنية وتؤكد أنّ هؤلاء الشّعراء يمتلكون الأسس الأوّلية لكتابة النّص ولكن بالتّأكيد هذا لا يجعلهم يشعرون بأنّهم في نهاية المطاف، فالفوز هو بداية الطّريق بالنسبة لهم، والنّص العظيم لا يبحث عن جائزة أصلاً، ولكن لهذه الجوائز دور في تحفيز النشاط وتأطيره بشكل يمكن للمؤسسة الثقافية أن تتدخل فيها من أجل دعم وتوجيه أكبر عدد ممكن من الشباب نحو العمل الإبداعي.
الحديث هنا دائماً عن المبدع، فما هو واقع المبدع السّوري حالياً، يبين الدّكتور محمد قاسم: على المبدع أن يصنع نفسه بنفسه، ثمّ يأتي التّكريم لاحقاً من دون سعي، والشّاعر المجتهد هو الذي يعتني بتطوير نفسه وموهبته وهذه لا تصقل إلّا بحفظ نصوص المبدعين في الحقل الذي يعمل به.. أنا أستطيع أن أرعى مبدعاً لكن لا أستطيع خلقه.. يؤخذ على المبدعين قلّة تمّرسهم بتجارب شعراء الفحول، والشّاعر الحق لا يمكن أن يكون شاعراً حتى لو امتلك الموهبة قبل أن يتعرف على تجارب الكبار.. الشّعر العربي متواصل ومتواكب وكلّ شاعر يحلّق وينظر بعمق لشعراء سبقوه ويحتفي به، ونحن نعاني من أنّ بعض الشّعراء المعاصرين أو ممن لهم هوى جامح بعيدون عن الشّعر العربي الصّافي الذي هو سبيل الإبداع الحقيقي.
كما أنّ الإبداع الحقيقي بحاجةٍ أيضاً لمن يتلقفه ويقرؤه ويتفاعل معه ويبدي رأيه، يقول بطرس: هناك مشكلة حقيقية نعيشها ويعيشها الإبداع في بلدنا، إذ إنّه من الصّعب أن نتابع كل الإنتاج الأدبي نظراً لغزارته وتباين مستوياته، والحقيقة قلّما نجد نقّاداً حقيقيين يكرّسون كلّ وقتهم للمتابعة لأن لديهم هموماً أخرى أوّلها تأمين دخل للعيش، في الدّول الرّاقية النّاقد المحترف يستطيع العيش بكرامة من وراء عمله، أمّا لدينا مثلاً في تحكيم جائزة حنّا مينه قُدِّم خمسون عملاً روائياً، بعضها تجاوز الـ500 صفحة، من يقرأ هنا ويحكّم مهما قدموا له من مبالغ مادية تبقى قليلة، ومن الصّعب المتابعة إلّا بدافع ذاتي.. أي ليس لدينا ناقد متخصص، بل هناك من ينقد كلّ الأجناس الأدبية وفي هذه الحالة يصبح لديه تداخل بينها ولا يستطيع الفصل بين الشّعر والنّص النثري.