لم أتوقّف عن التساؤل يوماً: ماذا وراء هذا “التسونامي” الهادر في الأعمال الفنية الأمريكية، سينما، تلفزيون، برامج واقع، ندوات، عروض دعائية! في كل حدثٍ درامي مشغول بعناية وتشويق وخبرة، دون استثناء، ستخرج شخصية من الظلّ مظلومة ومنبوذة ومحتقَرة بسبب شذوذها، لكنها ما تلبث أن تقوم بمأثرة لا يقدر عليها أنبل البشر وأشجعُهم وأشدُّهم إيثاراً، كإنقاذ طفل من فم تمساح في حديقة حيوان، أو إخراج عجوز من جحيم نار تحاصره، أو تخليص شابة من أيدي عصابة سلب في شارع جانبيّ مظلم خالٍ! كان حضور هذه الشخصية متلازماً كالشارة التي لا يخلو منها عملٌ مرئي! ثم طفَحَ إلى البطولات المطلقة كفيلم “زواج أعزّ أصدقائي” وقد غربت معه السينما العالمية بما فيها الفرنسية والإيطالية بَلْهَ اليابانية والروسية والصينية، لتلتهم هوليوود سوق الفن بقوة شركات الإنتاج المموّلة برأس مالٍ يفوق ميزانيّات دول بأسرها!
حثيثاً، كانت هذه الشخصية تحفر مكاناً لها في الوعي، ثم تتفشى كبقعة الزيت، حتى دخلَت الروايات المعاصرة عند كتّاب الموضة الرائجة، ثم في التظاهرات الجماعية لكلا الجنسين، ثم في صنع الشعارات الدّالّة، ثم في المنظّمات “الإنسانية” ثم في حفلات “الزواج” العلنية، فالمنابر الرسميّة كالقسم الوزاري، حيث يرافق الوزير زوجه، والمذيعة زوجتها! وخلال هذا التوليف كله، كان لا بدّ من انتزاع الصفة الواقعية للشذوذ وإعطائه صبغة تجميلية وتسميته بالمثلية، وتعميمها على ألسنة كل ذاكريها، من أساتذة وخبراء ومختصين و”علماء” وتجريم من لا يلتزم بها (كان الخبير العربي ممثلُ منظمة السكان العالمية يجري لنا ورشة عمل في دمشق، قد استنكر استخدامي لكلمة شذوذ وصححها لي لأن فيها مجافاة للحقيقة، فهؤلاء طبيعيون وخُلقوا بهذه الملكات الخاصة وعلينا تقبلُهم والترحيب بهم والتعايش معهم، ولم يردّ على سؤالي، فيما إذا كانت أميركا هي نبي عصرها في إنصاف البشر المظلومين، حتى تبنّت الموضوع بهذا الشكل المنظم والمخدوم بجيوش المال والإعلام والخبراء، لكن السؤال بقي يلازمني، لأن بعض الأسئلة لا يمكن إهمالها وأجوبتها الشافية هي جزء من سلامة العقل، الذي بهَدْيه تثبت الشخصية وتستقر سلوكياً!
سألتقي بدكتور علم نفس عائد لتوه من أوروبا الشرقية، يقول لي مبتسماً بأسى، إنه كاد يفقد حقّه بالشهادة لأنه استخدم كلمة شاذ مع أحد المراجعين، وقال له أستاذه المشرف: لولا محبتي لك وإدراكي أنك ابن مجتمع عربي لفصلتك من الدراسة والإشراف! هذه الكلمة محرمة في علومنا وجاء فيها توجيه من جهاتنا الرسمية! واستأنف قائلاً: للأسف، وراء كل هذا، الرأسماليةُ المتوحشة التي حطَّمت كلَّ البنى والمؤسسات الاجتماعية ولم يبق من هذه البُنى صلبةً إلا الأسرة! نعم استطاعت الرأسمالية أن تحوّل الإنسان من إنسان أو مواطن صاحب قيم، إلى مستهلك ومنافس ولاهث وراء المال والتملك، لكن الأسرة المتماسكة بقيت تحدياً أخيراً ويجب هدمه بكل وسيلة! أما الإنجاب والأبوة والأمومة فبزعمهم تم ترميمها بشراء أو تبني أطفال، لكن هل يستقيم مجتمع بشري بهذه الصورة؟ إن الأسرة وعاء متين، صعبٌ كسره، وإن منظومةً لا تستطيع القضاء على نقائضها، ستزول حتماً وتصبح في الدراسات المستقبلية: في المرحلة السابقة كان… وكان!