هناك بحوث يذهب بعضها إلى أنّ ملحمة جلجامش هي القصيدة العربية الأولى التي تأسّس عليها، وعبرها مجمل الإنتاج الثقافي العربي اللاحق، رغم وجود فجوة زمنية تتجاوز ألفي عام تفصل بين زمن جلجامش، وزمن القصائد الجاهلية الأولى. وفي هذا الشأن، يرجّح غير باحث، أن العرب قد عرفوا ملحمة جلجامش، وكانت قصّتها متداولة في الحجاز. والمشكلة قائمة في الفجوة الزمنية/المعرفية التي لا يُستطاع جَسْرُها إلا عبر الموادّ الظنّية والترجيحات. ووجود هذه الفجوة في الزمان، وفي المعرفة, لا يعني أنها فجوة فارغة من التواصل الحيوي الذي ينفي عن الشعر الجاهلي ولادته من الفراغ؛ فالنصوص المدونة بالعربية الشمالية، أي لغتنا العربية السليمة التي ما زلنا نستعملها إلى الآن، تشير إلى فرق حاسم بين النصوص المدوّنة على شواهد القبور القديمة، ونصوص الشعر الجاهلي. والفرق الزمني بين الطرفين لا يربو على مئتي عام إلا بقليل، وحتى لو بلغ الفرق أربعمئة، يظل الفرق عاجزاً عن تفسير القفزة النوعية التي شهدتها اللغة العربية عبر هذه المدة من التطور الذي تجسدّت ذروته الكبرى في نصوص الشعر الجاهلي. وعلى أساس العجز عن تفسير الفرق بين النصوص الجنائزية المدوّنة، والشعر الجاهلي، يرجّح الباحثون وجودَ خيوط تواصُلٍ أخرى بين المراحل الحضارية الكبرى والشعر الجاهلي الذي اشتملت نصوصه الأولى, كمعلقتي امرئ القيس، وطرفة بن العبد, على نقاط تقاطع مع النص الملحمي القديم (جلجامش) الذي يبدأ بافتتاحية تمجّد الرؤية، والرؤيا، وتمجّد القادر على الرؤية والرؤيا: “هو الذي رأى كل شيء/ لقد أدرك الأسرار وعرف محجوبها/ وسلك في تطوافه طرقاً قصية / حتى أضناه التعب/ فنقش فوق نصب من الحجر كل ما عاناه وكابده”. وفي القصائد العربية الأولى ما يشبه التزام الخطوات الكبرى التي التزمتها الملحمة العظيمة, كالوقوف على الخرائب وتأمّل المصير البشري الزائل، ووصف الرحلة ومشاقها، ومشاهد الصيد، والخمرة ومجالس شربها، والنساء والغزل، وصولاً إلى وصف المطر بطريقة تشبه وصف الطوفان الكوني. من غير أن يغيب عن الأذهان متابعة الشعر العربي المعاصر للحفاوة الخاصة بمسألة الرؤية والرؤيا، فمثلما كثر استعمال الفعل (رأى) في الشعر الجاهلي: “أرى الموت يعتام الكرام.. رأيت المنايا.. إلخ” كثر استعماله أيضاً في شعرنا المعاصر الذي يطابق بعضه في إحدى قصائد أدونيس ما جاء في مطلع جلجامش: “رأيت كلّ شيء/ في الخطوة الأولى من المسافة”.