مديح الورق

حين كتّبتْ: “ينام على وسادتي ويعزف سوناتا الشّغف. الكتابُ الورقيّ القديم” أثارت إعجاباً أدهشها، وما كان ذاك إلا احتفاءً بوصف “الورقيّ” لأن الكتاب متوفّر في كل وقت وصارت جموع من القراء تقرّظه محمولاً بملفّ على الهاتف المحمول، لأنه يرافق قارئه حيثما تنقّل، ويكون غِبَّ الطلب، وهو غير مكلِف، وخفيف إلى درجة أنه لا يستحوذ على مكان ولا يحتاج إلى احتلالٍ يزاحم سكان البيت في أمكنتهم الضيقة، ولا إلى مكتبة هي آخر ما يُفسَح لها مساحة في البيوت، بل ورأت، عبر مشاهدات متفرقة، كيف بدأ ترحيل الكتب من بيوت قديمة إلى مكتبات عامة، إما عن طريق ورثة لا يريدون كتبَ آبائهم، ويضنون في الوقت نفسه بهذه الكتب، أن تُرمى على الأرصفة، وإما عن طريق صاحبها الذي يريد أن يُخليَ مكانها لأمر ما، ولطالما شعرَت بأسى ممضّ وهي ترى تلك الكتب محزَّمة وموضوعة على عتبات منزلها الجديد، تنتظر تحريرها وإعادة تموضعها حيث يتاح لها، وقد فقدت تاريخها الشخصي، وعناية أهلها الراحلين، أو المتخلّين!
لا يستطيع الشعر ولا الأدب التغني إلا بـ”روح”، لأن الروح هي صاحبة السوناتا وهي من يعزف الشّغف، وهي من تتسع فوق المكان والزمان، ومن عجبٍ أن هذه الإضافة إلى الكتاب، عرفتها بعد التمجيد المطوّل له ولقيمته الفكرية والمعرفية، ربما لأن خيالها لم تأته يوماً، صورةُ الكتاب بلا ورق، وتقبلته كحقيقة بسيطة وأبدية، لا يمكن أن تزول، رغم أن الورق أنهى الكتابة على الطين المحروق، والجِلد، قبل أن يُقبل من مصادر طبيعية متجددة لا تنضب: القنب والقطن ولبُّ الشجر… وكانت تعشق رفقته وتعود إليه مركوناً على الرفوف أو مطوياً على قلم ضمن الصفحات، كمن عاد إلى عزيزٍ ينتظر، وعبر تاريخ هذه العلاقة الحميمة، كانت تظنّ أن السرّ في المحتوى وفي مسرّات الإصغاء الوجداني لإيقاعات الكاتب، لكنها اليوم تتلهف إلى مسرّات أخرى، كانت غائبة بحق، مثل ألحان مبهمة في فجر طالع، تختبئ فيه أوتارٌ تكمل المعزوفة الكونيّة! إنها رائحة لبّ الأشجار الحاضرة رغم عدم محسوسيّتها، ورائحة الماء الذي غسل ذلك اللّبّ لتنقيته، ورائحة الغابات الفسيحة، التي غنّت أطيارها، وطنّت حشراتها، وتصارع أحياؤها من أجل البقاء! تشعر بكل هذا لأنها تقف على مفترقٍ بفعل الزمن الموصوف بزمن “الذكاء” وهو في الواقع زمن تصحُّر بالنسبة لها! زمن اختفت في ذكائه فنون عديدة قد لا يرثيها أحد، فنُّ الخطّ، فنُّ الزخرفة، فن التجويد، فنّ التمرُّد على القوالب، وفنّ العزف على أوتار الرّوح والشّغف، ومادامت اللوحة التشكيلية تستعصي على التخلي عن القماش والألوان الزّيتيّة والفرشاة، لمصلحة الفوتوشوب على الشاشات ومصمّمي الرسوم الجاهزة، فإنها ستبقى متمسّكة برائحة الشذى المنبعثة من الورق، وستنشِد له ما استطاعت، وما بقيت تقرأ!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار