جدل مزمن!!
يُعتبر البعضُ التجريد من أرقى الحالات الذهنية، غير أنّ الأزمة تكمن في فهم التعاطي مع هكذا حالات، تأتي من مسألة الاعتراف بثنائية جوهر – شكل، المتصارعة بإقصائها لمفهوم تجريد جوهر الأشياء، وتركيزها على تجريد الشكل، الأمر الذي صار عبثياً، وذلك لأن الجوهر – المحتوى لا يوجد خارج الشكل، والعبثية تمثلت أكثر في اختصار الأشياء المحسوسة والواقعية إلى رموز وإشارات، وحركات لونية، وكان الأولى هنا، هو العكس تماماً، أي تقريب الأمور والأشياء غير المحسوسة لتصير محسوسة، الأمر الذي أوقعنا في التغريب، ثم كان هذا “العيش اللذيذ” في الماورائيات، أو الميتافيزيقيا والمسألة تبدو هنا أقرب إلى الركام الذي لا يبني شيئاً، والفيزيقيا، هي أن تحول هذا الركام إلى مداميك، ومن ثم بناء وأعمدة وتجيان وأسقف وغيرها..
والغريب أن المبدعين القدماء انتبهوا إلى حدٍّ كبير إلى هذه المسألة لاسيما فيما يخص موضوع الزخرفة، فالتجريد العربي القديم حاول أن يُقدّم المجردات محسوسات، سواء جاء ذلك باللون، أم بالشكل، والخطوط، والكتل، لجهة اللوحة والتشكيل بشكلٍ عام، أو الاعتماد على ما وفره المجاز في الشعر والكتابة.!
تكمن الصعوبة عند مبدع اليوم في هذه الهوة بينه وبين الأشياء من حوله، فهو يتحدث عن – الشجاعة المُختلف على تعريفها- صفحات وصفحات، لكنه يعجز عن الكتابة عن الكرسي الذي يجلس عليه – على سيبل المثال- بشيءٍ من الإبداع الحقيقي، لدرجة أنك لو أخرجت اللوحة من الصالة وعلقتها في مكان آخر لما انتبه إليها أحد على أنها لوحة تشكيلية، مع أنه في المُقابل ثمة من اتجه إلى إعادة الاعتبار للفنون الواقعية والمحسوس من حولنا، والكتابة بالحواس الخمس.. ولو أنني لست مع الإفراط في هذا الاتجاه صوب المباشرة التي أجدها تعادل “تغميض” التجريديين والذهنيين في الوصول إلى اللا إبداع.
إلى اليوم لايزال الكثيرون ينظرون على أن الشاعر أبو تمام قد أفحم الكندي عندما قال له “لماذا لا تفهم ما يُقال؟!” وذلك في ردّه على سؤال الأول “لماذا لا تقول ما يُفهم”.. أعتقد علينا أن لا نتسرّع كما تسرّع الأقدمون وأعجبوا بالرد السريع لأبي تمام، وإذا كان الكندي تحاشى التعقيب، فأعتقد لأنَّ سؤاله كان كافياً ومُفحماً للشاعر وهو الفيلسوف المعروف، لأنَّ الرجل حسب أنه قدم موقفاً نقدياً حاسماً، ومن ثم هو لا يريد السجال والمهاترات بعد ذلك السؤال الناقد.!
هامش
……………..
سيظلُّ السياجُ عالياً،
والياسمينةُ
تعبرُ هوّة الجرح..
حولي يتطاولُ كلُّ هذا،
والبهو
فارغٌ تماماً..