رواية ” الخريف الأخير”.. طمأنينة عالم القرية في مواجهة جنون الحروب!!

تشرين- جواد ديوب:

يرسم الكاتب البيلاروسي إيفان ناومينكو مشاهد روايته “الخريف الأخير” – ترجمة الدكتور ثائر زين الدين، مراجعة الدكتور فريد الشحف، الهيئة العامة السورية للكتاب ٢٠٢٤- يرسمها بألوان مائية رقيقة، إذ يتهدهدُ أمامنا جمال الطبيعة الرحب لجمهورية روسيا البيضاء زمن الاتحاد السوفييتي، تاركاً فسحةً للروح كي تقع في شبكة الأحلام والخيال. وينقل لنا بعيني بطله (فاسيل) مناظر قريته الطافحة بموسيقى اشجار الصنوبر والبتولا وفيض نباتات الخولنج المزهرة في كل مكان من الغابة “هناك حيث يمكن التنزه ساعات طويلة دون أن يلتقي أياً من خلق الله”.

الشاب فاسيل فتىً في السادسة عشرة من عمره، يعمل في محطة السكك الحديدية، حالمٌ رقيق، يسرح في غابات القرية بحثاً عن الفطر كغذاء لعائلته الفقيرة، لكنه شابٌ واعٍ ومدركٌ لأحداث كبرى تجري من حوله، يستعيدها في دروبه المتشعبة بين أشجار الصنوبر، فالعام الماضي ” أُبرِمَ اتفاقٌ مع ألمانيا النازية وحُررت المناطق الغربية من بيلاروسيا وأوكرانيا ولذلك يمكن الآن أن تعيش لينينغراد في سلام”… وصحيح أنه في مقتبل فتوّته لكن أسئلةً عن معنى وجوده ومستقبله ومشاعرَ حزينة ومقلقة تثير قلبه رغم رائحة الخريف المسكرة التي تملأ روحه محبةً وتعلقاً بموطنه.

الكاتب ناومينكو يُنمنِمُ سطور روايته بشفافية هادئة مثل أشعة شمس دافئة تتسلل من بين شجيرات الحور والصفصاف في قرية بطله فاسيل الذي يحكي لنا عن رفاق مدرسته وأساتذته بحنينٍ ومحبة واصفاً كل واحد منهم بجملة او جملتين تختصران طباع وروح الشخصية تلك، ثم يتابع الحكاية فيكتمل كل مشهد كما لو أننا أمام لوحة تشكيلية كل تفصيل فيها يكمل اللون وكل لون هو تعبيرٌ عن شعور وفكرة.

هكذا تصبح محاولات فاسيل مع رفيقيه ( إيفان سكفورشيفسكي الذي يأتي بجديد دائماً وستيبان برونكا الجديّ دائماَ) لتعلم اللغة الألمانية وقراءة الكتب بنهم تصبح تفصيلاً مهماً نفهم من خلاله تلك الرغبة عند الثلاثة في إحداث فرق وتغيير مهم في حياتهم/حياة أهلهم/مجتمعِ قريتهم، وتصبح المناظر المدهشة والعجائب والكاتدرائيات وقناة الفولغا في مدينة مثل موسكو زارها فاسيلُ مع والده… تصبح أمراً جذاباً لكن ليس مفاجئاً للفتى فاسيل الذي قرأ عن كل ذلك وخزنه في مخيلته، وتصبح حكاية الاتهام الباطل لأساتذته المتفانين في مهنتهم لمجرد أنهم كانوا قد خدموا ضباطاً وطيارين زمن القيصر… تصبح أحداثاً لا يتقبلها عقلُ وقلبُ الفتى العارف بأنها نعوتٌ كيدية ومجحفة.

وليست رغبة الأصدقاء الثلاثة تعلم اللغة الألمانية من قبيل “اعرف عدوك” بل هي الرغبة الأعمق بالمعرفة عموماً، بتنسّمِ هواء الأدب الألماني العظيم حين يستلم الأصدقاء طرداً بريدياً من موسكو يحتوي مختارات من المكتبة الألمانية: قصائد غوته، وحكايات الأخوين غريم ومجموعات من القصص القصيرة”… كما لو أن المؤلف يشير إلى أن ألمانيا ليست هتلر فقط رغم اجتياحه لنصف أوروبا!.

هذه اللفتة نحو أدب ألمانيا ولغتها وعظمائها رافقتها إشاراتٌ متكررة إلى عظماء الأدب الروسي مثل بوشكين وتولستوي وتشيخوف وسيرغي يسنين… والذين شكلوا العالمَ الأجمل للفتى فاسيل وجعلوا شخصيته مميزة مقارنة مع شباب قريته التي حفظها بكل أشجارها وظلالها وبيوتها الخشبية ومحطة القطار – حيث يعمل والدُ فاسيل محوّلَ خطوط- والتي تصبح رمزاً لحلم السفر والتغيير آخذةً قطاراتٍ وبضائع وجالبةً لوعودٍ وآمال. يفكر فاسيل:

“أيعقلُ أنه في غضون بضعة أشهر، في الصيف، سيأتي اليوم الذي سيحولُ فيه الأبُ الخطَّ، ويمضي القطار حاملاً فاسيل إلى أرضٍ مرغوبةٍ مجهولة؟”.

وصفٌ رقراق!

ومن صدف عوالم القراءة عموماً أنني بينما أسترسل في صفحات الرواية والوصف الرقراق للطبيعة البيلاروسية الخلابة؛ استرجعتُ في ذاكرتي زمن فتوتي وقراءتي لرواية “الدون الهادئ” للروسي شولوخوف قبل أن تقع عيني مدهوشةً على اسمه مذكوراً في الرواية هاهنا وقد صادفه الفتى فاسيلُ على رفوف إحدى المكتبات مترجماً إلى البيلاروسية فاشتراه مبتهجاً.

هذه المصادفة ربما لم تكن عبثية، فالروائي ناومينكو يصف الريف البيلاروسي الساحر المشابه للريف الروسي لكنه يرسم لنا تلك الطبيعة بأقل ما يمكن من عبارات عكس الوصف المسهب في “الدون الهادئ”، إذ تكاد جملة واحدة عند ناومينكو تكفي ليترك في مخيلتنا مشهداً سينمائياً ساحراَ:

“خريفٌ صافٍ وذهبي. دافئٌ ومشمس. الهواء شفافٌ بصورة غير معتادة”، أو جملة مثل: “أصبحت الغابة عارية. تُخشخشُ تحت الأقدام سجادةٌ ذهبية من الأوراق المتساقطة”، أو “يومٌ عاديٌّ، عابسٌ، ودافئٌ نوعاً ما، والثلجُ يتساقط”!

عالَمٌ عدائيّ!

لكن عالمَ الكتب الورديّ الذي يهيمُ فيه الفتى فاسيل ويغوص بين موجاته ويجعله حالماً طوال الوقت، يقابلهُ عالمٌ واسعٌ مضطربٌ لا يعتمد على الكتب بل يعيش بقوانينه الخاصة: “فمع الخريف شنت إيطاليا حرباً على اليونان ولم تنجح، وهتلر يتحرك بالدبابات نحو الإغريق، وما مرّ يومٌ على توقيع الاتحاد السوفييتي معاهدة صداقة وعدم اعتداء على يوغوسلافيا حتى هاجم النازيون هذا البلد”!

إنه عالمٌ عدائي مفارقٌ لحياة القرية حيث الأرض تسكب عصائرها المنقذة للحياة، عالمٌ غامضٌ مجهولٌ يثير في روح فاسيل غمّاً لا واعياً يتسلل إلى قلبه.

قلبُهُ الذي رغم تعلقه بحبيبته الفتية ناديا وبسنابل بيلاروسيا الوفيرة وطيور السمّان وفرقعات السكك الحديدية وموسيقى الأكورديونات الليلية… إلا أنه يتوهج قلقاً من مستقبلٍ غائمٍ وعصيّ على التنبؤ:

“يمضي فاسيلُ عائداً إلى المنزل على مهل (…)فارسٌ يعدو… مظهرُه غير عادي؛ وجهه متعرق وشعره أشعث وقميصه مفتوح… يصرخ لفاسيل: إنها الحرب… هتلر يهاجم”!.

تنتهي الرواية بهذه العبارة المخيفة، لكن ما تركه فينا سِحر تلك القرية وروائحها وصفصافها ومروجها يجعلنا نتخيل مصير فاسيل ورفاقه الذين حلموا يوماً وقرروا أن يصبحوا طيارين وجنوداً دفاعاً عن تلك الوداعة الهانئة التي يرغب كل إنسان أن يعيشها بعيداً عن فجائع الحروب المستمرة إلى يومنا هذا.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار