ملف «تشرين».. فجوة المهارات والمبادرات تبطل مفاعيل «دسم» القانون 107… الاستثمار بوابة أفق جديد لم تُفلح المجالس المحلية في إشراعها.. خبراء يرسمون خريطة طريق للتنمية المحلية المتوازنة
تشرين- رشا عيسى:
لم تكن الصلاحيات الواسعة التي أعطاها القانون للمجالس المحلية سلسة من ناحية التطبيق، وربما ليس الخلل في بنود القانون الذي أعطاها الصلاحيات الواسعة إدارياً وتنظيماً واستثمارياً، ويمكن لحظ هذا الخلل في أداء المجالس بصورة شبه عامة والذي مرده إلى ما يمكن تسميته بمعضلة الالتزام والتجاوزات وقلة الخبرة التي التصقت بأداء أغلب المجالس المحلية على مدى تاريخ ليس بالقصير في موقع بالغ الأهمية، حتى باتت مفاعيل الأداء السلبية تفرض واقعاً صعباً وضاغطاً على الواقع المحلي، في حين أن قانون الإدارة المحلية رقم 107 لعام 2011 جاء ليكرس اللامركزية ويعطي الدور للمجالس المحلية في تطوير البنى التحتية وتنمية موارد المنطقة التي يمثلونها، لكن الملاحظ على الأرض أن المجالس لم تواكب القانون 107 بمميزاته الواسعة، بل جاءت معاكسة ومعطلة له. وإذا كانت الوحدات الإدارية تعاني من نقص بالسيولة المالية بسبب محدودية الإيرادات، إلّا أنها تمتلك أصولاً وعقارات لا بدّ أن يصار إلى إدارتها بأسلوب استثماري تنموي في المجالات كلها، ما يتطلب تنسيقاً وتعاوناً مباشراً بين جميع الشركاء.
تحقيق التنمية المستدامة
عميد كلية الحقوق في جامعة دمشق الأستاذ الدكتور هيثم حسن الطاس تحدث لـ«تشرين» عن استثمارات المجالس المحلية مقسماً ذلك إلى فرعين، الأول: المعوقات التي تعانيها المجالس المحلية، والثاني تضمن المقترحات والحلول.
الطاس: المرتكزات الأساسية اللازمة لتنفيذ أحكام قانون الإدارة المحلية ضعيفة
وأكد الطاس أن المشرِّع ركَّز في المرسوم التشريعي رقم 107 لعام 2011 المتضمن قانون الإدارة المحلية، على أهداف القانون في تحقيق التنمية المتوازنة والمستدامة وتبسيط الإجراءات والارتقاء بالمقومات التنظيمية والمالية والبشرية لوحدات الإدارة المحلية. كما تضمن القانون مجموعة من الأحكام القانونية المتعلقة باختصاصات المجالس المحلية.
صعوبات متعددة
بقراءة متأنية لنصوص القانون 6 وخاصة تلك المتعلقة بصلاحيات هيئات الإدارة المحلية (المجالس ورؤساء المجالس) ومدى كفاية هذه الصلاحيات للنهوض بالمجتمع المحلي اقتصادياً وخدمياً نستطيع إبراز الصعوبات (بل العقبات) الآتية كما يوضح الطاس وهي:
أولاً- الموارد البشرية العاملة في المجالس المحلية :
إذا استبعدنا مجالس المحافظات ومجالس مدن مراكز المحافظات، فإن المجالس المحلية والمكاتب التنفيذية في بقية الوحدات تعاني من نقص حاد بالخبرات الاقتصادية والإدارية والاستثمارية، لدرجة أن المجلس المحلي مختصر برئيسه، وهو يقوم بعمل روتيني إداري لا يختلف عما هو سائد في المؤسسات الحكومية التقليدية، زد على ذلك فإن الكادر البشري الوظيفي في إدارة الوحدة الإدارية (هو مدينة – بلدة – بلدية) لا يشكل هيكلاً تنظيمياً يتوافق مع تطلعات المشرّع.
ثانياً- التمويل :
تعاني وحدات الإدارة المحلية من صعوبات مادية هائلة، بحسبان أن إيراداتها الذاتية محدودة، ومن ثم من غير المقبول أن تبقى الحال على ما هي عليه، حيث إن معظم المشروعات الخدمية التي تخطط لها المجالس المحلية يتم تمويلها من موازنة المحافظة أو على شكل معونة من وزارة الإدارة المحلية، ناهيك بالنقص الحاد بالآليات والمعدات الضرورية واللازمة لقيام المجالس بمهامها المحددة في القانون وتنفيذ خططها واستحقاقاتها.
ثالثاً- المسائل القانونية والتنظيمية :
لو انتقلنا إلى تحليل الأحكام القانونية المتعلقة برقابة السلطة المركزية على عمل المجالس المحلية، لوجدنا أنها تقتصر على الجانب الزجري أكثر من أنها تركز على تقديم العون القانوني والتقني والمالي للمجالس المحلية، كما أن الممارسة العملية تشير إلى أن السلطة المركزية تختزل المجلس المحلي برئيسه، وبالتالي يكثر الحديث في أوساط المجتمع عن ممارساته وارتكاباته، الأمر الذي يفرز فرضيتنا بأن المجلس مختزل فيه.
الطاس: الحد من العقبات التي تحول دون مشاركة المواطنين في صنع القرار المحلي
من ناحية أخرى، إن الكثير من قرارات المجالس المحلية ترسل إلى مجلس المحافظة أو إلى الوزارة من أجل مراقبتها والتأكد من قانونيتها في ظل بيروقراطية إدارية سلبية قاتلة، مع التذكير بأن أحد أهداف قانون الإدارة المحلية هو تبسيط الإجراءات الإدارية.
ومن خلال عرض المعوقات المذكورة أعلاه نصل إلى النتيجة الآتية :
إن المرتكزات الأساسية اللازمة لتنفيذ أحكام قانون الإدارة المحلية ضعيفة، كي لا نقول مفقودة. وبالتالي فإن متطلبات الانتقال من مجلس محلي روتيني يقتصر دوره على الجانب الخدمي إلى مجلس محلي ناشط وفاعل في مجال الاستثمار غير متوافرة.
ما الحلول؟
يقول الطاس: نذكّر في هذا السياق بالتشريعات التي صدرت سواءً تلك المتعلقة بالموازنات المستقلة للمحافظات أم تلك المتعلقة بقانون التشاركية رقم /5/ لعام 2016 أو تلك المتعلقة بقانون التخطيط الإقليمي رقم /26/ لعام 2010.. هذه التشريعات تشكل البيئة القانونية المناسبة للنهوض بالمجتمع المحلي تنموياً.
وإذا كانت الوحدات الإدارية تعاني نقصاً بالسيولة المالية بسبب محدودية الإيرادات، فإنها تمتلك أصولاً وعقارات لا بدّ أن يصار إلى إدارتها بأسلوب استثماري تنموي، سواءً أكان ذلك في مجال الزراعة أم الصناعات الزراعية أو في مجال السياحة أو الرياضة أو الخدمات، وهذا يتطلب بالطبع تنسيقاً وتعاوناً مباشراً بين جميع الشركاء: الدولة والمحليات والقطاع الخاص والقطاع الأهلي (الجمعيات والنقابات). وفيما يلي مجموعة من المقترحات التي نراها تصب في الهدف :
1- نهيب بالمجلس الأعلى للإدارة المحلية أن ينجز عملية التوسع في تطبيق اللامركزية، ونقل صلاحيات الأجهزة المركزية في المحافظات إلى المجالس المحلية.
2- نهيب بالجهات المعنية أن تشجع على تفعيل موضوع الإدارات المشتركة للمشروعات المشتركة بين المحافظات والمدن، وسحبه على باقي الوحدات الإدارية، والقانون الحالي كان قد نصَّ صراحة على ذلك.
3- نهيب بالجهات المعنية أن تطلب من المجالس المحلية خطة متكاملة عن المشروعات الاستثمارية الملائمة لكل منها إقليمياً وثقافياً وخدمياً، ودراسة مدى إمكانية تنفيذها من خلال شركات الاقتصاد والمختلط بين المجلس المحلي والقطاع الخاص وفق ما نص عليه قانون التشاركية رقم /5/ لعام 2016، على أنه يتم التنسيق مع الهيئة السورية للاستثمار وهيئة التخطيط والتعاون الدولي ومجلس المحافظة والمجلس الأعلى للتشاركية، بهدف البحث عن جدوى كل مشروع وتمويله إما بنظام الـ« BOT » أو من خلال إحداث شركات محدودة المسؤولية بين المجالس المحلية والقطاع الخاص، أو بين المجالس المحلية والدولة والقطاع الخاص.
4- التركيز في البداية على المشروعات الصغرى والمتوسطة، ومن ثم الانطلاق نحو مشروعات أكبر، سواءً في قطاع الصناعة أم الزراعة أو النقل أو البنية التحتية، بالصورة التي تجسِّد اللامركزية المرفقية (الفتية).
5- الوصول بسياسة الدولة نحو تحقيق المجتمع المحلي النشيط، وهذا يتطلب :
أ- تحسين مستوى إحاطة المواطنين بالحياة المحلية والعمل المحلي.
ب- الحد من العقبات التي تحول دون مشاركة المواطنين في صنع القرار المحلي.
ج- تيسير الحوار بين المواطن والمجالس المحلية.
د- محاولة التخفيف من التحديات التي تمنع المواطنين من المشاركة في النهوض بالمجتمع المحلي وخاصة التحدي المتمثل في تحقيق توقعات المواطنين، وتحدي الثقة والمصداقية، وتحدي التنسيق بين المجالس وبقية الشركاء الفاعلين وهذا يتطلب بدوره :
– تفعيل تقنية الإعلام كأداة تواصل بين المجالس المحلية والمواطنين.
– تطبيق مبدأ المجلس المحلي المفتوح للعموم.
– الحوار بين المجلس المحلي والمواطنين.
– التقييم المجتمعي لجودة الخدمة.
– تفعيل التخطيط الإقليمي التنموي.
تكريس اللامركزية
المحامي فراس علي ميني أكد لـ«تشرين» أن القانون أعطى صلاحيات للمجالس المحلية بالاستثمار في المادة 30 من قانون الإدارة المحلية 107 لعام 2011، ومن الناحية القانونية والنظرية فإن المجالس المحلية تبرم العقود الاستثمارية التي تؤمّن سير الخدمات وتدعم عملية التنمية المستدامة للمناطق التي تمثلها. وهذا القانون جاء ليكرس اللامركزية ويعطي الدور للمجالس المحلية في تطوير البنى التحتية وتنمية موارد المنطقة التي تمثلها وتنميتها.
ميني : التحول إلى اللامركزية لابد أن يواكبه تحول مواز في قوانين الاستثمار
وجاءت هذه الصلاحيات لتفيد بكل ما من شأنه تطوير المحافظة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وعمرانياً بما يتماشى مع التنمية المستدامة والمتوازنة في مجالات التخطيط- الصناعة- الزراعة- الاقتصاد والتجارة- التربية- الثقافة- الآثار)، وأن المجالس المحلية هي صلة الوصل بين المواطنين والسلطات المركزية، ولذلك فإن اللامركزية التي كرّسها قانون الإدارة المحلية نقلت جزءاً من الصلاحيات من الإدارات المركزية إلى المجالس المحلية وهذا نظرياً إيجابي جداً.
وإشراك رؤساء مجالس المدن والمحافظين في المجلس الأعلى للإدارة المحلية هو تأكيد على التحول إلى اللامركزية، وهو أيضاً من الناحيتين النظرية والقانونية توسيع لصلاحيات المجالس المحلية في الاستثمار.
صلاحيات منقوصة
ويوضح ميني أنه في الواقع هذه الصلاحيات منقوصة أو معتلة ومقيدة، فالتحول إلى اللامركزية كان لابد أن يواكبه تحول مواز في قوانين الاستثمار, وتحول مواز في البيئة التشريعية لبقية الإدارات التنفيذية المركزية، وهذا لم يحصل, فإطلاق الصلاحيات للمجالس المحلية بالاستثمار جاء مقيداً بالسلطات المركزية أو الوزارات المركزية التي لم تتخلَّ عن صلاحياتها لمصلحة المجالس المحلية, فالعقود السياحية والزراعية والصناعية والتجارية بقيت مركزية ولم تواكب القانون 107 بل جاءت معاكسة ومعطلة له، لأن تنازع الصلاحيات يفوّت فرص الاستثمار على كل الأطراف.
كوادر غير مؤهلة
من جهة أخرى فإنّ الكوادر المنتخبة في المجالس المحلية في أحسن حالاتها هي كوادر غير مؤهلة ولا تملك خبرة كافية في إدارة الاستثمارات، هذا إذا ما أضفنا الطرق الملتوية التي يصل فيها أغلب أولئك المنتخبين إلى المجالس المحلية، فأولئك لن يدافعوا إلّا عن مصالحهم الضيقة جداً، وأن البيئة الانتخابية لا تدعم النخب المستقلة ذات السمعة الجيدة والخبرة الجيدة.
لذلك ومن أجل الوصول إلى قدرة هذه المجالس على الاستثمار بما يؤمن التنمية المستدامة وتحقيق واقع خدمي حقيقي لابدّ من وضع تشريعات واضحة ومفصلة لصلاحيات هذه المجالس وتكون متقاطعة ومتوافقة مع بقية التشريعات التي تدعم استقلالية هذه المجالس في تحقيق الاستثمار الحقيقي والمناسب للمناطق التي تمثلها، إضافة إلى تهيئة بيئة انتخابية مناسبة تدعم وصول طبقة التكنوقراط غير الملتزمة بأجندات حزبية أو مصلحية ضيقة، إضافة إلى تفعيل الجهات الرقابية على هذه المجالس، وتكون هذه الجهات الرقابية منتخبة وليست معينة، وبعد ذلك يمكن أن نصل إلى حالة متقدمة من الربط بين دفع الضرائب وجودة الخدمات المقدمة، وفي هذه الحالة يرى ويلمس المواطن الفارق بعد دفعه للضرائب وتحسن الواقع الخدمي حيث يتحول دفع الضرائب من عبء مكروه إلى واجب مرغوب به لارتباطه بتحقق الخدمات وجودتها.
امتلاك الإرادة والكفاءة
المحامي أحمد قلعة جي يوضح لـ«تشرين» أن قانون الإدارة المحلية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم ١٠٧ لعام ٢٠١١ يهدف إلى تطبيق مبدأ اللامركزية في الإدارة وإعطاء صلاحيات واسعة للمجالس المحلية لتقوم بدورها الاجتماعي والتنموي والاقتصادي وتحديد هذه الصلاحيات بما يمنع التداخل بين عمل هذه الوحدات والسلطة التنفيذية، أي الوزارات.
ويقول قلعه جي: إن كان هذا المستجد يشكل نقلة صحيحة باتجاه تفعيل العمل الشعبي وممثليه في الوحدات التي يتم انتخابها، فإن ذلك منوط بقدرة هذه الوحدات على القيام بالأعباء وامتلاك الإرادة أولاً والكفاءة ثانياً والقدرة على اتخاذ القرار والتفكير بمنطق مختلف عن منطق الموظف.
قلعة جي: تفعيل العمل الشعبي وممثليه في الوحدات التي يتم انتخابها منوط بقدرة هذه الوحدات
على القيام بالأعباء وامتلاك الارادة أولا والكفاءة ثانيا والقدرة على اتخاذ القرار
وإن كنا نتحدث عن الاستثمارات هنا وعن انعكاس هذه الاستثمارات على تعزيز الحياة الاقتصادية للوحدات، فإنّ الاستثمارات هذه لا تعني طرح المرافق والمشروعات للاستثمار من القطاع الخاص، وإنما تعني أيضاً امتلاك هذه الوحدات القدرة على الاستثمار وإدارته بعقلية ناجحة كعقلية التاجر الملتزم الذي يهدف إلى تقديم سلعة مقابل الربح، لكن الربح هنا سيعاد تدويره في خدمة المشروعات وأعمال التنمية. وعلى سبيل المثال لو أن الوحدات الإدارية تستثمر المواقف العامة التي هي جزء من الأملاك العامة بدل تسليمها استثماراً للقطاع الخاص، ولو أن هذه الوحدات كانت هي التي تدير المولدات الكهربائية المعروفة بنظام «الأمبيرات» لكانت واردات هذه المشروعات ستذهب لخدمة مشروعات مشابهة وتحقق التنمية للوحدة الإدارية.
المسألة ليست في القانون ولكن المشكلة بمن يطبق هذا القانون ويحدد لنفسه حيزاً لا يرغب في تجاوزه، المسألة أولاً وأخيراً هي بمن يملك الإرادة والدراية والرغبة في التفكير خارج صندوق التكليف والوظيفة.
اقرأ أيضاً: