ملف «تشرين».. قمة «الرد على روسيا والصين» في فيلنيوس.. أميركا تدفع باتجاه خراب عالمي جديد
تشرين- د. رحيم هادي الشمخي:
في قمة الـ«ناتو» الأخيرة في العاصمة الليتوانية، فيلنيوس، أثبت الغرب مرة أخرى قصر نظره فيما يخص الصين وروسيا، سواء كل منهما على حدة، أو فيما يخص علاقة التحالف بينهما، أو فيما يخص علاقة كل منهما مع الغرب.
في هذه القمة، كان هناك أمران لافتان، مترابطان، ومتعلقان بروسيا والصين، باعتبار الأولى خطر داهم، والثانية خطر لاحق.
الأمر الأول كان في حضور أربعة من زعماء آسيا والمحيط الهادئ للقمة، وهم : رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول، رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز، ورئيس الوزراء النيوزيلندي كريس هيبكنز.
والجميع يعلم كم أن هاتين المنطقتين مهمتان لدول حلف شمال الأطلسي «ناتو» في مواجهة محور الصين – روسيا، وعندما يحضر أربعة من زعمائها فهذا يعني أن «ناتو» سيسعى في المرحلة المقبلة إلى توسيع نطاق عملياته في مواجهة الصين تحديداً، والولايات المتحدة بالأساس لديها اتفاق «أوكوس» مع أستراليا (وبريطانيا) الذي يسمح لها بالانتشار نووياً في المنطقة، فضلاً عن تواجدها العسكري الواسع في المنطقة، وفي أقرب المناطق للصين. وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن هناك في «ناتو» من يدفع باتجاه إقامة «مكتب اتصال» للحلف.
في قمة فيلنيوس أرادت واشنطن التأكد من أن الجميع سيقفون خلفها
قبل أن تبدأ مرحلة تصعيد جديدة ليس فقط ضد الصين وروسيا.. منطقتنا في قلب هذا التصعيد
في العاصمة اليابانية طوكيو فلنا أن نتخيل هنا حجم المواجهة التي يخطط لها «ناتو» مع الصين في المرحلة المقبلة عبر توسيع نطاق عملياته في المحيطين الهندي والهادئ.
الأمر الثاني هو «الوثيقة الاستراتيجية» الصادرة عن قمة «ناتو» في فيلنيوس والتي جددت وجهة النظر الأميركية باعتبار الصين «عدواً استراتيجياً» يهدد «مصالح وأمن وقيم «ناتو»». كما جددت الوثيقة التحذير من «تعمق الشراكة الاستراتيجية» بين الصين وروسيا، داعية الأولى إلى الامتناع عن جميع أشكال الدعم لروسيا في حرب أوكرانيا.
وبالنسبة لروسيا، كررت الوثيقة موقف «ناتو» في اعتبار «روسيا التهديد الأكثر أهمية ومباشرة لأمن الحلفاء والسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية والأطلسية».
هذه الوثيقة تدل على قصر نظر كما ذكرنا آنفاً، وإن كنا نتوافق مع المراقبين الذي يؤيدون الخوف الأميركي/ الأطلسي المتصاعد حيال الصين من جهة وتحالفها مع روسيا من جهة ثانية، وحيال العالم الجديد الذي تدفعان باتجاهه على قاعدة عالم متعدد الأقطاب، ما يضعهما مباشرة في المحور المعادي لأميركا التي تبرر لنفسها استخدام كل الوسائل للرد واحتواء هذا المحور بهدف نهائي هو إسقاطه.
ولكن من الخطأ جداً القول إن ما يجمع روسيا والصين هو فقط العداء لأميركا، ومن الغباء جداً أن يعتقد المسؤولون الأميركيون بذلك ، فهذه رؤية قاصرة كما قلنا .. وخطرة على أميركا نفسها ثم على حلفائها.
لنجرب إعادة تدوير ذلك القول وذلك الاعتقاد.
لماذا يتم استخدام كلمة عداء ولا يتم استخدام كلمة ردع أو تصد؟ .. وعليه يكون ما يجمع روسيا الصين هو التصدي لسياسات العداء والنهج العدواني الأميركي ضد كل العالم. لتجرب الولايات المتحدة ولو مرة واحدة في تاريخها أن تمد يد السلام والصداقة للدول والشعوب عندها سيتوقف تماماً توصيف كل تقارب وكل تعاون وكل تحالف على أنه من باب العداء لأميركا .
قد يُصنّف – تنافساً – لتحقيق التطور والرفاهية والتكامل والسلام وهو حق للجميع وليس لأميركا فقط .. ولتحقيق الحماية والأمن، وليس فقط العسكري بل الاقتصادي ولضمان المستقبل .. هو تنافس وليس عداء .. فقط أميركا هي من قامت تاريخياً وما زالت على نهج العداء للجميع والعدوان على الجميع. كل قوة تسعى لمضاعفة أمنها وقوتها، وكل دولة تسعى للتحالف ضمن جوارها الإقليمي، وكل دولة تنشد السلام والاستقرار هي بالنسبة للأميركيين تهديد لهم على قاعدة أن السلام والاستقرار والتطور والرفاه الاقتصادي والبشر حكر لهم وعلى من يتصدقون عليهم ببعض من ذلك. أميركا لم تفكر ولن تفكر يوماً بإقامة علاقات طبيعية متوازنة .. علاقات تعاون وتكامل مع أي دولة ولن تتخلى عن نهج العداء والعدوان .
من الخطأ جداً القول إن ما يجمع روسيا والصين هو فقط العداء لأميركا..
ومن الغباء جداً أن تعتقد أميركا بذلك.. هذه رؤية قاصرة وخطرة على أميركا نفسها وعلى حلفائها
.. ومع ذلك ليس كل تعاون أو تقارب بين دولتين وليس كل تحالف أو تجمع دولي هو فقط من باب العداء لأميركا أو من باب رد هذا العداء وإلا لما كنا شهدنا ونشهد كيف تمتد وتتعاظم قوة أكثر من دولة على مستوى العالم وليس روسيا والصين فقط (هناك الهند على سبيل المثال) .. و”التحالف” بين روسيا والصين ليس الوحيد بل هناك أكثر من تحالف أو لنقل تجمع دولي له قوته ونفوذه «منظمة شانغهاي مثلاً ومجموعة دول بريكس».
ما يقلق أميركا، بل ما يُرعبها ويثير جنونها ليس ما تسميه «العداء» بل مسألة أن «التحالف» بين روسيا والصين هو «تحالف» مفتوح وليس مغلقاً أو منغلقاً عليهما فقط :
أولاً.. هو «تحالف» مفتوج بينهما على أعلى مستويات من التعاون وتحقيق التطور والازدهار لكل منهما على حدة ولكليهما معاً.
ثانياً.. هو « تحالف» مفتوح بمعنى يضم أبرز الدول . إذ إن روسيا والصين عملتا على تشكيل أو بالأحرى توفير ما يمكننا تسميته «شبكة أمان » تتعدى رؤيتهما الثنائية باتجاه تحالفات أخرى على مستوى الدول وعلى مستوى المنظمات.
ثالثاً.. هو «تحالف» مفتوح أمام الجميع للانضمام إليه وعلى قاعدة التكافؤ والمعاملة بالمثل والمنفعة المتبادلة وليس على قاعدة العداء لأميركا أو رد هذا العداء.
هذا بالضبط كابوس أميركا المستمر، والذي تريد توسيعه ليتحول كابوساً جماعياً لكل دول «ناتو»، وبما يدفعهم للتحرك معها في أي إجراء، حتى لو كان حرباً جديدة هم أكبر الخاسرين فيها.. قمة «ناتو» في فيلنيوس كانت بالضبط ترجمة لما تريده أميركا وهي تصعد وتضغط لوضعه موضع التنفيذ قبل أن يفوت الآوان، ولكنها في الوقت ذاته على ثقة من أن جميع أعضاء «ناتو» سيكونون معها، بعضهم لديهم علاقات اقتصادية لا غنى عنها مع الصين (وحتى مع روسيا) وأوروبا بالعموم هي أولى ضحايا السياسات الأميركية وحروبها التجارية مع الصين، وعقوباتها على روسيا.
في قمة فيلنيوس، أرادت الولايات المتحدة التأكد من أن الجميع سيقفون خلفها، قبل أن تبدأ مرحلة تصعيد جديدة، ليس فقط ضد الصين وروسيا، بل إن منطقتنا ستكون في قلب هذا التصعيد، وربما الاستدارة التركية الجديدة تصب في إطار هذا الهدف.. وهذا ربما ما يجعل قمة فيلنيوس هي الأخطر منذ ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي.. ولنبدأ ترقب ورصد التطورات، فالأحداث قد تبدأ سريعاً، وتتسارع باتجاه خراب عالمي جديد.
كاتب وأكاديمي عراقي
اقرأ أيضاً: