على هامش الحرب الأوكرانية.. «أيها النمل ادخلوا مساكنكم»
العالم يتغير من تحت أقدامنا، ونحن نواصل عبثية المقاربات، مازلت أرصد التحوّلات منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، كتبت في نهاية الثمانينيات بأنّ الحرب الباردة لم تنتهِ، وبأن روسيا تخففت من حمل الاتحاد السوفييتي لتواصل التّحدّي، كالمقاتل الذي يتخلّى عن حمله لمواصلة المعركة، كان الاستشراف يومها لا يتجاوز الأنف، والكل انخرط في مهرجان النهايات، ها هي روسيا تعود وبمنطق الدولة العظمى، تتهيّأ لتحدّي الجغرافيا السياسية، في معارك أوراسيا القادمة، لتحول دون نزهة “ناتو” في الهارتلاند، الحرب واقعة على كلّ حال، فمتى خلا العالم منها؟ لكن حرباً كهذه هي امتداد لثأر الجغرافيا -ثأر الجغرافيا عبارة لكبلان- ولا يمكن قراءتها في ضوء مفهوم السيادة الذي بات إشكالياً في القانون الدولي؛ وهو كذلك لأنّ تذكير روسيا الدائمة العضوية في مجلس الأمن بمبادئ الأمم المتحدة، مهزلة.
أيّ نوع من الكوميديا التي ينتحلها رئيس جاء في سياق الوهم، وهو يخفي ملامح تراجيديا إقليم لم يستقرّ منذ العصر البرونزي، مرة أخرى يخترق التبسيط الجغرافيا لينتج الملهاة، أوكرانيا اليوم بالون اختبار، وهي محفز لمعرفة ملامح النظام العالمي القادم، وفضلاً عن ذلك، هي ضحية تموضع شقي على تخوم تضعها أمام خيارين لا ثالث لهما:
-إمّا الانخراط في السيادة النسبية، التي يفرضها الجوار الحرج لدولة كانت حتى زمن قصير جزء منها، أي أوكرانيا البلشفية السوفييتية.
– وإمّا السيادة المحمية بـ”ناتو”، وهو ما يعني الحرب العالمية الثالثة.
الصواريخ النووية الروسية ذكّرت “ناتو” بأنّ الحرب هنا لا يمكن أن تكون لعبة، وبأنّ التعريف العرفي للدولة العظمى هو اتساع أعماقها الإستراتيجية، هناك عملية إنساء ممنهجة لروسيا كدولة عظمى، وهنا يكمن الخطأ وسوء الفهم الكبير.
في هذه المعركة سيكون تحصيل حاصل قلب الحقائق والتشويه بلغة الأنسنة التي يعتمدها “ناتو” في معركة الوعي ضدّ روسيا، غير أن الإعلام الغربي المشهود له في هذه الصناعة بالاحترافية الكبرى، يجد مفارقته في الحضيرة العربية الواقعة في البيداء الكونية، وغير المعنية بقواعد اشتباك الحرب الباردة إلاّ من حيث سقط محصولها في توزيع المحميات، هنا “يتكيرن” بعض العرب أكثر من أوكرانيا، ويطلقون العنان لدموع تماسيح لا نرى لها مثيلاً في تمنكبات الجغرافيا السياسية الممتدة.
“ناتو” لا يحمي أحداً، ولقد فعل ذلك في أوكرانيا كما فعلها في أفغانستان ومناطق أخرى، ربما روسيا لم تتخلَّ عن حلفائها.
سترسو الأمور على اتفاق بين البلدين لا محالة، لنعتبره الاتفاق الـ30 بعد عديد الاتفاقيات الموسومة منذ سنوات بالهشاشة، حوض دونباس وشبه جزيرة القرم حكاية تاريخ من تداخل السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، الاتفاق هنا أكثر تعقيداً، وستكون الهشاشة دافعاً لتعزيز منطق القوة، تسكن المعضلة الوجودية هنا في بيت اللغة، في عديد من ساكني أوكرانيا الناطقين بالروسية.
يعنينا في هذه الحرب بُعدها الكوني، مصير العالم، مستقبل النظام العالمي، هناك هواة من البيداء العربية ينخرطون في تحديد معايير هذه الحرب ويصدرون أحكاماً تعزز بؤس الملهاة، أيّها النمل، ادخلوا مساكنكم..
كاتب من المغرب