بورتريه قريب جداً.. عصمت رشيد: لماذا لا نذكر المبدعين إلّا حينما يرحلون؟!
تشرين- سامر الشغري:
لم تحظَ تجربة المطرب والملحن عصمت رشيد بما تستحق من دراسة وبحث وتوثيق، رغم ما تحمله من خصوصية وما حققته من نجاحات، ليكون في ذلك صنو معظم المطربين السوريين من أبناء جيله، الذين ابتعدت عنهم الأضواء ولم تنصفهم الأقلام وتجاهل تجربتهم النقاد.
في عقر دارهم
اشترك عصمت مع جمع من المطربين السوريين الذين جذبتهم النهضة الفنية المصرية وسافروا قاصدين القاهرة (هوليود الشرق) سعياً وراء الشهرة والجماهير العريضة، ولكن عصمت اختلف عن زملائه بأنه حمل راية الأغنية الشعبية المصرية والموال الاسكندراني لينافس المصريين بها في عقر دارهم.
بدأ الميل للطرب المصري عند عصمت منذ طفولته، فهذا الفنان الذي ولد في حي الصالحية الدمشقي سنة 1948، نشأ في كنف أب يعمل برسم الزخارف ويقتني صندوقاً للسمع “فونوغراف” وأسطوانات لكبار المطربين المصريين وفي مقدمتهم محمد عبد الوهاب، فأخذ الطفل يسمع لهؤلاء ويقلدهم وكانت أكثر الأغاني التي شدته فحفظها (حسدوني وباين في عيونهم) لموسيقار الأجيال.
سينما سورية
صوت عصمت الجميل والقوي لفت انتباه والده، فأخذ يطلب منه الغناء له ولضيوفه عندما يسهرون في أرض الديار، وعندما شب عصمت وبلغ الـ18 وجد لنفسه فرصة في الغناء أمام جمهور أكبر حين دعته صالة سينما سورية ليشارك في برنامجها الفني، فأخذ يغني في أربع حفلات يومية تسبق عرض الفيلم، وأعجب الناس بأدائه أغاني المطرب الشعبي المصري محمد طه، ما يشي بالتوجه الذي سيهيمن على تجربته الغنائية.
وصل صيت هذه الحفلات ومطربها الشاب إلى إذاعة دمشق، فتلقى عصمت دعوة من كبير المذيعين وقتها فؤاد شحادة للمشاركة في البرنامج الأسبوعي ركن الهواة، وهناك خصصت له حلقة كاملة للغناء أمام مايكروفون الإذاعة، ثم سافر إلى حلب لإحياء حفلات في مطاعمها ومرابعها أمام جمهورها الذواق وكانت تلك تجربة مفيدة وضرورية، وبعد عام ونصف من الغناء في الشهباء رجع إلى دمشق ليقدم أغنيته الأولى (يا شعرها الأشقر يا عيونها الخضرا) كلمات شاعره المفضل أحمد قنوع وألحان الموسيقار سعيد قطب ويصورها في التلفزيون.
المطرب الشاب
صيت عصمت كمطرب شاب وسيم وصوته قوي، كان واسطته ليشارك في تصوير المغناة الحوارية “سارح” رفقة المطربة القديرة سهام إبراهيم كلمات الشاعر رفعت العاقل وألحان سعيد قطب، وصورها المخرج المخضرم فواز كيلارجي كأول عمل خارجي بالكاميرا الملونة في التلفزيون السوري، حيث لاقت الأغنية نجاحاً زادت من شعبية عصمت.
وتسنى لعصمت تنمية قدراته أكثر خلال أدائه لخدمة العلم، حيث قضى سني خدمته في المسرح العسكري وتعلم العزف على العود مع العوّاد صالح الشيخ، كما أتقن الغناء والوقوف على المسرح والنوطة الموسيقية، وشارك بحدود 250 حفلة ما أهله بقوة لأن يكون مطرباً محترفاً.
السفر إلى مصر
وجاءت المرحلة الأهم في حياة عصمت سنة 1974، بعد تسريحه من الخدمة العسكرية، حيث تعرف على المطرب المصري محمد عبد المطلب خلال عملهما معاً بأحد المرابع الليلية في دمشق والذي اقترح عليه السفر إلى مصر والغناء في مرابعها وصالاتها ولاسيما أنه يتقن الغناء الشعبي المصري والناس ستحبه لذلك، وأعطاه كتاباً يرشحه للعمل بأحد مرابع شارع الهرم الشهيرة.
وبدلاً من أن يقيم عصمت في مصر لشهر واحد كما كان مقرراً امتدت إقامته فيها لـ14 سنة، حيث ساعده في البداية صديقه وابن مدينته الفنان موفق بهجت، وانطلق عصمت بعدها ليقيم الحفلات ويعقد الصلات مع الأوساط الفنية المصرية، واعتمد مطرباً في إذاعة القاهرة من خلال لجنة تضم كبار الموسيقيين أمثال محمد سلطان وحلمي بكر وعطية شرارة وعبد الحليم نويرة.
الأغاني الخاصة
وفي سنة 1976 عزم عصمت أن يقدم أغاني خاصة فيه باللون الشعبي المصري فذهب لعند الشاعر سمير الطائر الذي أعطاه نص أغنية (بحبك كل يوم)، بعد أن استمع لتلحينه مذهب الأغنية وأعجب بمستواه، وكان لافتاً أن منتج الأغنية اقترح إضافة عبارة بأنها آخر ألحان الموسيقار فريد الأطرش لأنها تشبه أسلوبه، لتحقيق المزيد من النجاح.
اتبع عصمت هذه الاغنية بتلحين أغاني: عاجبني، ودايماً قادرين علي، وبكام الورد يا معلم.. وأضاف من غير أعماله أغنيتي: بدنا نتجوز على العيد، وكان عندي غزال.. ليقدم أولى ألبوماته والذي باع أكثر من مليون نسخة، ما جعل شركة الإنتاج تتفق معه على تقديم ألبوم جديد، فقدم خلال إقامته بمصر سبعة ألبومات غنائية.
ليه تشكي
تعاون عصمت مع كبار الموسيقيبن في مصر فقدموا له عدة ألحان من محمد سلطان وسيد مكاوي وحسن أبو السعود ومحمد علي سليمان، وحصل من آخرين على الدعم والتشجيع وفي طليعتهم محمد الموجي وبليغ حمدي، إلا أنه وجد أنه الأنسب لتلحين أغانيه لأنه يعرف مقدرات صوته وما يناسبه، فاستمر على هذا المنوال وحصد شعبية كبيرة بين المصريين، وكان ذروة نجاحه مع أغنية (ليه تشكي من الدنيا ياورد) كلمات شاعر اسمه محمد أنور السيد
والتي عزم بعدها العودة إلى سورية.
الشوق لمسقط رأسه والحنين لبلده جعله يترك وراءه كل شيء وكما كان يقول “حب الوطن قتّال”، وانخرط من فور عودته في نشاط فني محموم وكأنه لم يغب فشارك في مهرجان المحبة منذ انطلاقته واتبعه بمهرجانات بصرى ومعرض دمشق الدولي وجرش وقرطاج وأطلق سلسلة من الأغاني أشهرها (بس ليش بعاد) ألحان سعيد قطب و(كفك يا جميل) ألحانه، أما أغنيته (دقوا على الخشب) كلمات سمير المصري فحصدت نجاحاً غير مسبوق حتى أصبحت ثيمة لانتصارات فرق كرة القدم السورية.
حضن الوطن
وإزاء الحضور الغنائي الكبير لعصمت داخل سورية وخارجها، قدم تجربة جيدة في عالم التمثيل فلعب بطولة فيلم (صيد الرجال) مع ناجي جبر وحياة قنديل من مصر، وشارك في خمسة مسلسلات منها (عائلة فهيم وعريس الهنا)..
نشاط عصمت اتسع ليشمل الجانب النقابي والإداري فانتخب رئيساً لفرع نقابة دمشق للفنانين ورئيساً لجمعية المسرح الحر وعضواً في جمعية المؤلفين والملحنين الدولية بباريس، حيث سعى من خلال هذه المواقع تكريس مكانة الفن السوري داخل البلاد وخارجها، واستثمر بهذا المجال علاقاته وصداقاته الكثيرة وكان له يد بيضاء على الكثير من زملائه الفنانين.
وفي الختام
في السنوات العشرين الأخيرة من حياة عصمت ابتعدت عنه الأضواء تدريجياً وغاب بصورة شبه كاملة حتى أثر ذلك على نشاطه الفني، وكان يؤلمه ذلك ويصفه بالتغييب ويتساءل لماذا أُستبعد أنا وزملائي عن شاشاتنا الوطنية ألسنا الأحق بها؟، مع أنه له في أرشيف الإذاعة 221 أغنية و70 تسجيلاً مصوراً وفيديو كليب، ورغم ذلك عندما اندلعت الحرب على سورية سارع وقدم 11 أغنية ولكنها بدورها قلما تذاع.
ومع مطلع هذا العام وبصورة مفاجئة شخص الأطباء بوجود مشكلة قلبية عند عصمت، مع أنه رياضي ولا يدخن أو يشرب الكحول، فأجريت له عمليات زراعة شبكة، لكن ذلك لم يمنع رحيله عنا في 24 تشرين الثاني قبل حلول عيد ميلاده بستة أيام.
كان عصمت يؤمن بأن الغرور يقتل الفنان وأن طريقه الأضمن للنجاح تواضعه ومحبته للناس، وأن الحفاظ على الموهبة واجب على الفنان وعليه تجنب كل ما يلحق الضرر بها، وكان يعتقد أن الغناء والموسيقا والألحان علم بحد ذاته وعلى الفنان دراستهما جيداً ليختار الأحسن، وأنه من واجبنا تسليط الضوء على الأجيال القادمة وتجاربها، وكان يتساءل بكثير من الحرقة: لماذا لا يتم الاحتفاء بالمبدعين في حياتهم ولماذا لا نذكرهم إلا حينما يرحلون؟!