في ليلٍ صافٍ تضيئه النجوم البعيدة، انبعث صوتٌ رخيم ما لبث أن أحدث جروحاً في النفس: “من سجن عكا طلعت جنازة، محمد جمجوم وفؤاد حجازي”! جاء الصحو كأنه كأس مترعٌ بمُرٍّ غامض، لا تفسير له إلّا الحزن الذي يسلب الوعي لأن الحكاية صارت تتسع حتى أطبقت على الليل الكوني: محمد جمجوم، وفؤاد حجازي، وعطا الزير، رجال واقعيون غادروا العالم عام 1930 معاً! كانوا مختلفي المهن، منتسبين بالميلاد إلى أرض فلسطين، اعتقلتهم بريطانيا المستعمرة لأنهم ثاروا على تهويد بلدهم، ولحظة الإعدام بدت تراجيدية حدَّ المأساة التي تهز الجبال لأن كلّ واحد منهم كان يطلب الموت قبل رفيقيه حتى لا يذوق لوعةَ فراقه التي لا تتعدى الساعة، هي فارق التقدم إلى منصة الإعدام! هكذا روت الأنشودة الشجية تاريخاً لو أنه كُتب بلغة المؤرخين لجاء على النحو التالي: أعدمت السلطات البريطانية الاستعمارية ثلاثة رجال فلسطينيين ثاروا على إجراءاتها التعسفية، لكن الأنشودة كان لها شأنٌ آخر وتأثير يشفُّ القلب سيستمر قروناً رغم بساطتها، ورغم قوافل الشهداء التي لم يتوقف تدفقها، ولكل شهيد رواية دونها الملاحم التي كتبتها الشعوب لتُميِّز ذاتها وشخصيتَها!
نعم! إنّ للفنّ تأثيره الذي يشغل الدراسات ولا يُقفل دراساته من دون اجتهادات متجددة، ففي ظل هذه الأنشودة الشعبية العظيمة التي تتجدد كلما أُنشِدت، كتب الشاعر “إبراهيم طوقان” قصيدة “الثلاثاء الحمراء” ثم غنتها فرقٌ فنية في أزمنة مختلفة وقد مرَّ عليها أربعة وتسعون عاماً، وفي موكبها المهيب رسم فنانون تشكيليون آلاف اللوحات، وكتب الشعراء آلاف القصائد، وأنتجت الشركات الفنية عشرات المسلسلات، وغنى الأطفال العرب أناشيد فلسطين في مدارسهم ، وكتب الأدباء رواياتٍ وقصصاً على غزارة إنتاجهم في الأدب الرومانسي أو العاطفي أو الواقعي، وغنى المطربون من المحيط إلى الخليج لها، وهم غير المطربين “الملتزمين” الذين حظوا بهذه التسمية بسبب غنائهم السياسي، فما بال زمن “الطوفان” لا يواكبه طوفان من الفن ونحن في زمن التواصل السريع الذي يتيح للكلمة المنطوقة أن تعبر مسافات خيالية لتصل إلى أذن بعيدة عنها بمقدار قارات؟ لماذا تنحّى بعض المشاهير عن قضية هي بعضٌ من تكوينهم الوجودي؟ لماذا سكنوا في فقاعاتهم الهشة وقديماً قيل إنّ الفن يسكن أبراجاً عاجية حين يتنحى عن الفعل في محيطه، وفي هذا الزمن لا عاجاً ولا يحزنون، بل أموالٌ لها “شيكاتها” التي تتنقل من دون صناديق، وفيها تواقيع “عارٍ” لا يمحوها الزمان!