ارتفع لترى أكثر..! عن فن العيش والإبداع القادم من علٍ

تشرين- علي الرّاعي:
(1)
على رؤوس الجبال غالباً ما تمّ اختيار بناء القلاع، وفي الساحل السوري، اختار الناس منذ الزمن القديم رؤوس المرتفعات لبناء المزارات للمؤمنين والقديسين، والقديس سمعان العامودي بدوره، وغيره الكثير من القدسين، والمتصوفين، استطابوا العيش على ارتفاعٍ معين من سطح الأرض، على سبيل المثال: على عمودٍ اختاروه مكاناً لممارسة زهدهم.. وليكونوا أكثر قرباً من كرسي عرش السماء، ومن هناك صاروا يناجون، ويرتلون له، وتكاد معظم كائنات الأرض تشمخ باتجاه الأعلى..!
حتى القرى يُختار لها سفوح الجبال، والبيوت التي تطلع طوابق، وكذلك أشجار الغابة التي تتطاول ارتفاعاً وتسمو صوب الشمس..!
(2)
كانت رغبة الفتى ذي العشر سنوات شديدة في أن يتعلم القفز بالمظلة، ولأجل ذلك، بدأ يأخذ الدروس، يقول له المدرب: عندما تُحلق الطائرة في السماء، سترمي نفسك في الفراغ، ثم تعدُّ حتى العشرة، فتفتح بعد ذلك المظلة، لترى أنك معلقٌ بين السماء والأرض، ويسأله الفتى ماذا لو لم تفتح المظلة ياسيدي؟! فيجيبه المدرب: ببساطة تذهب إلى المتجر وتشتري غيرها..!
تلك حكاية وجهت ذات يوم إلى الأطفال، غير أن الكثير ممن قرأها منهم، شكلت له حافزاً لاتخاذ قرار الكتابة فيما بعد كنوع من التحليق، والابتعاد مقدار مسافة ما من الأرض، ذلك أن “التحليق” بكلِّ مجازاته وواقعيته طالما كان حلماً للكثيرين، وأياً كانت نتيجة السقوط مريعة.. وبالتأكيد لن يكون أولهم عباس بن فرناس، كما لن يكون آخرهم ماوصل إليه عالم فضاء من كواكب، ومجرات، وكذلك لن يقف الأمر عند كل من أجاد مجازاً، فكتب نصاً، أو قدّم صورةً بصرية، أو حتى حلّق بجسده رقصاً.
(3)

تروي الحادثة التاريخية أن المتصوف جلال الدين الرومي (1207-1273م) كان يسيرُ ذات يوم أمام دكان أحد الصاغة في بلدة قونية التركية، عندما هبطت عليه نفحةُ الحبِّ الإلهي، فإذا به يدورُ على نفسه في رقصةٍ انضمّ إليها الصائغُ صاحب الدّكان، ومنذ تلك الحادثة العرفانية، أي ما يزيد عن السبعمئة سنة إلى اليوم وهذه “الحركة” الدورانية – الرقص حتى التحليق.. والجسد في خدمة الروح- تتفرع إلى طرقٍ ومدارس وأتباع تحيي الليالي الكثيرة والطويلة، وفي أحيانٍ عديدة غالباً ما انزاحت هذه “الرقصة – رقصة الدراويش” عن حالتها الدينية لتدخل أكثر من حالةٍ دنيوية، وان التقت الحالتان – الدينية والدنيوية- في أكثر من منعطف ونقطة أهمّها الجمال، فقد استعير هذا “الدوران” بكلِّ ما يحمل من مواربة بين الثبات والحركة، وإنتاج الفعل من الثبات إضافةً لجماليات الاستعراض ليدخل في تفاصيل أكثر من عمل إبداعي في مناحي الفنون المختلفة.
(4)
ليست غاية متسلق الجبال أن يصل إلى القمة فحسب، وإنما غاية الوصول إلى القمة، هو أن يستمتع بالمناظر من “فوق”، ذلك أنك لترى أكثر، لابد أن ترتفع أكثر، ربما من هنا كانت محاولات الطيران الأولى، وربما، ثمة من يرى، إنه لأجل هذه الغاية، كانت عروش الآلهة السماوات..!
ولأنّ النظر من علٍ، يُتيح للرائي زوايا رؤية أكثر، أو رؤية غير محددة الزوايا “واستطالات للحواس” – كما يرى البعض- حتى أصبحت اليوم تشكّلُ نمطاً مستقلاً من فنون عالم الفوتوغراف، وهو فن التصوير من السماء، وصار له نجومه في العالم.. تذكر (جين تايلور)، وهي إحدى المشاهير في هذا الفن: التصوير البعيد ومن الجو تحديداً، يعرض للشكل الخارجي الكامل، والأبعاد الطبيعية، أو تلك التي من صنع الإنسان، فيما شهيرٌ آخر في هذا المجال، هو (يان آرتوس برتران) الذي صوّر أكثر من نصف المعمورة من الجو – ومنها سورية- له هدف من صور السماء، فهي ليست مجرد أعمال فوتوغرافية، لإبراز جمال المواقع الجغرافية فحسب، وإنما هي جزء من رسالةٍ بيئية، للدفاع عن الأرض.!
(5)
في روايته “البارون المعلق” لإيتالو كالفينو – ترجمها للعربية معن مصطفى حسون- تحكي الرواية عن فتى أراد أن يعيش فوق الأشجار، جاء قراره هذا بعد مشادة على “أكلة حلزون” أعدّتها شقيقته “باتسيتا”، أو كما يطلقون عليها راهبة البيت، والمتمسكة بطقوس لايحيدون عنها في العائلة النبيلة، وكان رفض الطعام يُعتبر خروجاً عن التقاليد القدسية للعائلة، لكن الفتى أراد أن يتمرد على كلّ التقاليد والطقوس، فكانت فضاءاته أعالي الأشجار، وكان من هذا المستوى من الارتفاع أن رأى أكثر من كلّ الذين تحت، هناك عشق بكلِّ وجد القلب، ومن شغافه، وهناك تعلم، ومن هناك أيضاً قدّم مساعداته لكلِّ الذين تحت، من هذا الارتفاع حيث كان “ملكه” يمتدُّ إلى حيث يمكنه البقاء فوق الأشجار، ومن ثم إلى حيث تمتدُّ هذه الأشجار، ومن هناك كان للأشياء رؤية أخرى.. حيث للشارع منظر مختلف، وكذلك الحدائق، ونباتات الزينة، وحتى أشكال الناس أيضاً الذين حاججهم، وانتصر عليهم بفلسفة العلو هذه، هناك في الأعلى، طالع، وأحبَّ، وصادق متشردين، ومنفيين، وحيوانات، ومن هناك أيضاً، وعندما أزفت النهاية تعلق بجناح طائرة، وغاب في الفضاء.!

كان “كوزيمو بيو فاسكو دير وندو” وهو الصبي المعلق، اختار هذا التعلق فوق الأشجار، قد رغب في حمل هذه المملكة إلى حدودها النهائية، ومن ثم دراسة كلّ الاحتمالات التي تقدمها، وأن يكتشفها نبتة إثر نبتة، وغصناً بعد غصن.
(6)
الفرار عن الأرض، ليس كرهاً بها، ولاهروباً من شرورها، وإنما غالباً كان شفقةً عليها، أو لحمايتها مما فعله “الجهلاء” من الذين يدبون عليها، أليس أديمها “من هذه الأجسادِ” على حدِّ وصف المعرّي؟! ولذلك – ربما- هم يخففون الوطأ عليها، على ما نصح به ذلك الفيلسوف- المعري- الذي اختار بدوره ليس الارتفاع عنها، وأنما الاكتفاء، أو ألزم نفسه بمساحة صغيرة منها ليعش عليها.!
وغالباً ماخدم “فن العيش” على ذلك الارتفاع الحياة على الأرض، إن كان ذلك استكشافاً، أو تقديم مثل، أو عظة، فكلُّ شيء يختلف عندما يُنظر إليه من الأعلى، أو لمجرد الارتفاع لترى أكثر.!
(7)

أقنعوه
في الوصول إلى القمة،
فطويلاً
ردّدوا على مسامعه
بيت الشّاعر أبو القاسم الشابي:
ومن يتهيّب صعودَ الجبالِ
يعشْ أبدَ الدهرِ بين الحفر
بجهودٍ سيزيفية
وصل أعلى القمة؛
تملكه الرعب، حينما نظر
ووجدَ كلَّ ما حولها
هاوية..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار