الوردة الذهبية

حيّاني على عجل حين تخطّى العتبة ثم أردف بصخب شديد: هل تصدّقين أنني عثرت على “الوردة الذهبية” وجلبتُ لك واحدة؟ وكنتُ الوحيدة بين الجلوس من أدرك ما قصده! كان يعني كتاب الأديب الروسيّ “كونستانسين باوستوفسكي”، وهو ليس برواية ولا بنقد بل جولة في جماليات كتابة الأدب وكنت قد ذكرت أمامه في حديث عابر شيئاً عن الرماد وخروج “سندريلا” منه (موضوع تناوله باوستوفسكي في هذا الكتاب)! قال إنه كان يتفقد كتب الرصيف التي جمعها البائع تحت مظلة قماشية لأن مطر حمص ينهمر على هواه، ففاجأتْه الوردةُ الذهبية بإشعاعها رغم أن الغلاف الخارجي منزوعٌ من مكانه وأن الخطّ على الصفحة الأولى يعطي انطباع فقرٍ وبؤس، وبعد أن اشترى النسخة صوّرها على الفور وزوّد الأصلية والمصوّرة بغلاف عاديّ!
قلّبتُ الوردة الثمينة بين يدي، وفي خيالي مكتبته العامرة التي تكتظّ بالكتب وقد انتابتني نوبة من صحوة الواقع: -من سيحفظ هذه الكتب بعد رحيلنا عن الدنيا؟ هل سيفهم أبناؤنا الفرح الذي ضممنا به كتاباً؟ هل ستخطر ببالهم اللهفة التي تلقفنا بها روايةً جاءتنا من وراء الحدود؟ وحين رأيت الهمود الذي أصابه مازحتُه قائلة: سنطلب وضعَ مكتباتنا معنا في منزلنا الأبديّ! ورغم أن موجة الكآبة تبدّدت مع شرب القهوة وحديثٍ مستجد عن التراث، وكان من عشاقه ودارسيه، قال حين ودعني إن علاقته بمكتبته اختلفت بعد سؤالي! وما كان واحد منا يدري ماذا تخبئ لنا الأقدار، إذ كان بيته أولَ بيت دمّره الإرهابيون في حمص ولم يبقَ من المكتبة إلّا الذكريات والأسى والورق الممزق تحت الأنقاض! ثم رحل عن الدنيا قبل أن نجتمع ولو ساعات نفرد فيها رقعة الآلام ونتأمل ما غاب عنها من أسماء وأمكنة وقناعات!
بعد عقد ونصف من الزمان، رأيت الشبان يضيقون بمكتبات آبائهم، وكباراً يريدون إخلاء أمكنة من بيوتهم إرضاءً لشركاء يطلبون مساحات تتسع لأثاث منزلي حديث، وتقليداً مستجِداً لترحيل صناديق من الكتب إلى مكتبات عامة، يشعر معها أصحابها أنهم لم يتخلَّوا نهائياً عن الملكية، بل اعتمدوا الترحيل الرحيم المؤقت كما يفعل الكثيرون في إيداع الأب أو الأم في دار المسنّين ويزينون هذا الإيداع بأنه أفضل حلٍّ، ففي هذه الدار يجد المسنّ الرعاية الصحية والنظافة وبرامج التسلية ومعايشة جيلٍ متقارب له الاهتمامات والمسرات نفسها!
لعلّنا نمضي بل وننزلق إلى زمن لا وجود فيه للمكتبة المنزلية، وربما لا وقت فيه لقراءة كتاب كامل ولو بملفٍّ على حواسيبنا الذكية!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار