أميركا و«إعادة انتشار» عسكري/اقتصادي في إفريقيا.. قمة الـ«ناتو» أقرّت جغرافيا التمركز الجديد بمواجهة جغرافيا «اتحاد دول الساحل» وروسيا والصين

تشرين- مها سلطان:

ليس بالضرورة أن تكون القارة الإفريقية مُدرجة كبند أساسي على قمة الـ«ناتو» التي اختتمت أمس في واشنطن، لتكون حاضرة في المداولات، ففي القمم العالمية كهذه القمة تكون مجريات الكواليس أهم من مجريات المسرح المُعلن، وإلا كيف يمكن تفسير البيانات الختامية لهذه القمم التي تأتي بصورة عمومية، ومملوءة بتعابير «الدعوات والمناشدات، والحث على… والإعراب عن القلق، والتشديد على… إلخ»، فيما القرارات والاتفاقات الفعلية لا يتم الإعلان عنها، وتبقى طي الكواليس، لا يفضحها إلا الميدان.
لا يمكن لقمة مثل قمة «ناتو» أن تَغْفل عن تطورات القارة الإفريقية ومسارات الافتراق النهائي عن أميركا والغرب، التي تتخذها العديد من دولها، خصوصاً أن هذا الافتراق هو باتجاه الخصوم، روسيا والصين.

لا يمكن لقمة مثل قمة الـ«ناتو» أن تغفل عن تطورات القارة الإفريقية الأخيرة ومسارات الافتراق النهائي عن أميركا والغرب باتجاه روسيا والصين

دليلنا على ذلك أن إفريقيا وردت بشكل صريح في البيان الختامي لقمة «ناتو»، الذي أكد عزمه على تعزيز وجوده في القارة الإفريقية (والشرق الأوسط) أو ما بات يسمى مؤخراً دول الجنوب العالمي، وبالذريعة نفسها طبعاً، أي «دعم جهود السلام والازدهار»، وقال البيان: يوفر الجوار الجنوبي لحلف شمال الأطلسي/ناتو/ فرصاً للتعاون في القضايا ذات الاهتمام المشترك.. ومن خلال شراكتنا، نسعى جاهدين للمساهمة في تحقيق قدر أكبر من الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط وإفريقيا، وتعزيز السلام والازدهار»، على أن ينشئ المكاتب والمراكز، أي نقاط التمركز الجغرافي، المناسبة لتحقيق هذا الهدف.

افتراق إفريقي
يفيد التذكير هنا بتطورين مركزيين مهمين جداً بجانبيهما الإفريقي والأميركي: الأول هو إعلان كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، توحدها في كونفدرالية عسكرية، أطلق عليه اتحاد دول الساحل (AES)، وذلك يوم السبت الماضي خلال اجتماع قادة الدول الثلاث في العاصمة النيجرية نيامي، وهم القادة الذين قادوا انقلابات عسكرية ناجحة بين العام الماضي 2023 والعام الحالي 2024 (الرئيس الانتقالي المالي عاصمي غويتا، وزعيم بوركينا فاسو إبراهيم تراوري، وزعيم النيجر عبد الرحمن تشياني)، ثم الانسحاب نهائياً وبمفعول فوري من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) المعروفة بتوجهها الغربي.

ويأتي هذا الاتحاد العسكري متمماً للتحالف الدفاعي الذي أعلنته الدول الثلاث في أيلول الماضي، والذي كان هدفه الأساسي مواجهة التحديات الأمنية (وأبرزها محاربة الجماعات الإرهابية) التي سيخلفها انسحاب القوات الغربية/الفرنسية، أو بعبارة أدق بعد قيام هذه الدول بطرد القوات الغربية، وعلى رأسها الفرنسية، لتتكفل هي بمكافحة الإرهاب الذي استفحل بوجود هذه القوات التي هي موجودة أساساً لهذه المهمة تحديداً، لكنها على أرض الواقع مارست سياسات استعمارية قمعية قائمة على الاستعباد والنهب وسرقة ثروات الدول الإفريقية، وهي هائلة، مقابل إبقاء هذه الدول نهباً للتخلف والفقر والفساد.. والتبعية في نهاية المطاف.

لكن كل شيء انقلب رأساً على عقب مع الانقلابات المتتالية بدءاً من مالي والنيجر وبوركينا فاسو لتصبح القوات الفرنسية خارج القارة، فيما تجري تصفية مصالحها الاقتصادية.

– إفريقيا وردت بشكل صريح في بيان الـ«ناتو» الذي أعلن عن إعادة تدوير وجوده في القارة عبر نقاط تمركز جغرافي جديدة كاستراتيجية مستقبلية للعودة

أميركا واستراتيجية العودة
التطور الثاني/أميركي، حيث وجدت الولايات المتحدة الأميركية نفسها، كما فرنسا، خارج القارة، مع انسحاب قواتها من العاصمة النيجيرية نيامي، وفق اتفاق الطرد نفسه المتعلق بالقوات الفرنسية، على أن تستكمل أميركا خروجها في أيلول المقبل.

ولأنه أمر لا رجعة فيه، فإن إحدى أولويات واشنطن حالياً هي البحث عن موطئ قدم جديد في القارة الإفريقية، بينما تشير التقارير المتتالية إلى أن عينها تتركز على ليبيا، وسنرى في الأيام المقبلة ترجمة لذلك على الساحة الليبية.

لا شك بأن التحالف الإفريقي الجديد يثير مخاوف شديدة لدى أميركا والغرب عموماً، فهو بالمطلق سيكون مستقبلاً أبعد من كونه تحالفاً عسكرياً/دفاعياً، فإذا ما تحول اقتصادياً، وهو سيتحول حكماً، فهذا يعني بداية تعاف اقتصادي، أو لنقل تدشيناً لمسار تعاف اقتصادي إفريقي من سيطرة الغرب وعبوديته الاقتصادية، وإذا ما أضفنا أن التحالف مدعوماً من روسيا والصين فهذا يعني تعزيز وتقوية مسار التعافي الاقتصادي بأهم قوتين عالمياً (روسيا عسكرياً، والصين اقتصادياً)، وعليه فإن على أميركا أن تجد سريعاً مواقع جديدة تبقيها على الساحة الإفريقية، كاستراتيجية عودة في المستقبل، ونجاحها ليس مستبعداً في ظل أن دولاً في إفريقيا قد ترحب بأميركا على قاعدة استغلال الوضع، والاستفادة منه باعتبار أن أميركا تحتاجها، وبالتالي بالإمكان فرض اتفاقات متناظرة على مبدأ المصالح المشتركة.. وهذا ليس بالأمر السيئ إذا ما تحقق مبدأ المصالح المشتركة، أي إذا ما عرفت هذه الدول كيف تدير اللعبة مع واشنطن بصورة تعود عليها بأكبر استفادة ممكنة.

عن الاتحاد الجديد
– رغم الأحداث الدولية الحامية في أكثر من بقعة عالمية إلا أن التحالف الجديد حجز مكاناً مهماً له على ساحة الاهتمام العالمي، ومن أهم القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
– عملياً، تعد الدول الثلاث، مالي وبوركينا فاسو والنيجر، متقاربة جداً في الظروف والتطورات والتوجهات.. قادتها الحاليون وصلوا إلى السلطة بانقلابات عسكرية ناجحة غيّرت إلى حد كبير وجه القارة الإفريقية.. والأهم أنها تحظى بدعم شعبي كبير.

– تميل هذه الدول إلى اتباع سياسات ذاتية/مستقلة، وإذا ما اختارت التعاون العسكري/الدفاعي بداية، فهذا أمر منطقي ومفهوم، من دون تجاهل الأزمات الاقتصادية الكبيرة، التي ترى الدول أن بداية حلها تنطلق من الابتعاد عن المؤسسات الاقتصادية الإفريقية/الغربية، ومنها «إيكواس» والمجموعة الاقتصادية لبلدان جنوب الصحراء الكبرى (سيدياو)، وهناك توقعات بأن تغادر الدول الثلاث الاتحاد النقدي الإفريقي (CFA).

تحالف مالي- بوركينا فاسو- النيجر جعل أميركا في حالة تأهب.. فهو حتماً سيتوسع إلى أبعد من كونه عسكرياً دفاعياً عدا أنه يدشن بصورة متينة مسار تعاف اقتصادي إفريقي

– قادة الدول الثلاث استبقوا قمة لرؤساء إيكواس (عقدت في اليوم التالي لإعلان التحالف الجديد) لإرسال تأكيد واضح وحاسم بقطع التحالف صلته بمجموعة إيكواس، ومن مضمون المعاهدة المكونة للاتحاد الجديد والقائم على (عدم الاعتداء ومجالات اقتصادية ونقدية واجتماعية) يُفهم أن الدول الثلاث تريد «نسف الترتيبات الإقليمية الراسخة في غرب إفريقيا والتي تمثلها إيكواس بصورة أساسية».
هذا من جانب.. ومن جانب آخر، يُفهم من مضمون المعاهدة، خصوصاً بجانبيها الاقتصادي والاجتماعي أن الدول الثلاث تستهدف أساساً الحفاظ على سيادة الدولة والسيادة الشعبية.. وقادة الدول الثلاث الحاليون هاجموا بصورة دائمة وحادة إيكواس وسياساتها وتوجهاتها الغربية، حتى إن زعيم بوركينا فاسو إبراهيم تراوري وصف قادة دول إيكواس بـ«عبيد الدار» الذي لا يفكرون بأي شيء سوى خدمة سادتهم «الغربيين»، وسبق لمجموعة «إيكواس» أن هددت بالتدخل عسكرياً في الدول الثلاث لا سيما في النيجر، رغم أنها ليست منظمة عسكرية أو دفاعية، لكنها تراجعت مضطرة باتجاه ممارسة الضغوط بفرض عقوبات اقتصادية، ثم التفاوض الذي لم يحقق أي نتيجة، وصولاً إلى إعلان الدول الثلاث الاتحاد والانسحاب من إيكواس.

– كان واضحاً أن الدول الثلاث مهدت مسبقاً لخطواتها التالية ما بعد الانقلابات الناجحة، عبر مد جسور للتعاون مع روسيا والصين، وليس خافياً الوجود الصيني الاقتصادي البارز على الساحة الإفريقية والذي هو محل إزعاج وقلق كبيرين لأميركا.. وليس خافياً أيضاً الوجود الروسي على مستوى المساعدة العسكرية/ التدريب والتجهيز، وعلى المستوى السياسي أيضاً.

– بالتزامن، توجهت الدول الثلاث باتجاه دول الجوار للتعاون وتسوية الخلافات، كما فعلت النيجر التي دخلت في محادثات ثنائية مع دولة بنين، والهدف تمتين التحالف الجديد إقليمياً، كما حالة مع روسيا والصين، وبما يمكنه سريعاً من تجاوز تداعيات الافتراق والانسحاب عن إيكواس، والهدف الأهم كما ذكرنا آنفاً هو ضمان أكبر استقلالية على مستوى القرار السياسي ومساحة المناورة في الملفات الحساسة، من مكافحة الإرهاب إلى إدارة وتصدير الموارد والثروات المحلية التي تقبع عليها الدول الثلاث، وهي هائلة بكل معنى الكلمة، رغم أن هذه الدول تعد الأفقر عالمياً.

– حسب البيان الختامي لإعلان التحالف.. تعتزم الدول الثلاث التنسيق فيما بينها بشكل أوثق في سياستها الخارجية والأمنية وتنظيم حرية حركة الأشخاص والبضائع وإنشاء بنك استثماري مشترك. وحسب تصريحات لقادة الدول الثلاث فهم «قرروا عبور مرحلة إضافية نحو اندماج أكثر عمقاً بين الدول الأعضاء»، ولهذا الغرض تبنوا «معاهدة تؤسس كونفدرالية/اتحاد/ بين بوركينا فاسو ومالي والنيجر تحت مسمى: كونفدرالية دول الساحل».

تحديات وآمال
لا شك بأن الاتحاد الجديد يواجه تحديات كبيرة، أمنية واقتصادية، وهو ما يراهن عليه الطرف المقابل (أميركا وحلفاؤها وأتباعها في الداخل) لفشل أو إفشال هذا الاتحاد.

صحيفة «لوموند» الفرنسية هاجمت الاتحاد بحدة، معتبرة أنه الأغبى منذ تصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وعددت الصحيفة الفرنسية – ولدوافع معروفة للجميع – ما سمته الكوارث الاقتصادية التي ستقع على رأس الدول الثلاث، مشيرة إلى أنها الأفقر عالمياً، وأن نصيب الفرد فيها من الناتج الحلي أقل من 2500 دولار سنوياً. كما أن هذه الدول لا تتمتع بإمكانية الوصول إلى البحر ما يضطرها للاستيراد والتصدير عبر جاراتها الساحلية، مثل ساحل العاج وبنين وتوغو وغانا ونيجيريا. عد أن (إيكواس) هي من يضمن لهذه الدول الثلاث حرية تداول البضائع وحركة الأشخاص، كما أنها ستفقد أسواقاً إفريقية مهمة مثل نيجيريا وغانا.

وتتجاهل صحيفة «لوموند » أن حال الدول الثلاث الذي تحدثت عنه هو نتيجة مباشرة، بل مؤامرة ممنهجة من فرنسا على مدى عقود طويلة لإبقاء هذه الدول في دائرة الفقر والتخلف لضمان تبعيتها المطلقة.

وكالة «بلومبرغ» الأميركية نسجت على المنوال نفسه، مشيرة إلى أن الدول الثلاث ستخسر أهم مسألة، وهي حالة التكامل الاقتصادي مع (إيكواس)، وفقدان الأسواق، وحرية التنقل، هذا عدا الميزانيات المحدودة جداً باعتبار أن التركيز المالي الأساسي يذهب باتجاه تمويل محاربة المجموعات الإرهابية. وتشير «بلومبرغ» إلى المديونية الكبيرة للدول الثلاث التي ستتفاقم مع عجزها عن سداد الديون.

الرؤية واضحة
ما سبق ليس خافياً على أحد، ولا على الدول الثلاث التي يركز تحالفها إلى كل هذه التحديات. وكان زعيم بوركينا فاسو إبراهيم تراوري عرض وشرح هذه التحديات قائلاً: لقد رأينا أنه من الضروري توسيع بنية التحالف (AES).. إن ما يوحدنا اليوم يجب أن يسمح لنا بالتحرك نحو قطاعات أخرى تتجاوز الدفاع، ولا سيما المالية والاقتصاد والبنية التحتية والصحة والتعليم. وتم التوقيع على اتفاقيات بين الدول الثلاث في المجال النقدي والاقتصادي، بعد نقاش داخلي روج للتخلي عن فرنك الجماعة المالية الإفريقية – المرتبط بالعملة الفرنسية والتراث الاستعماري – إلى عملة جديدة ستجعل دول الساحل أيضاً مستقلة عن وجهة النظر هذه. وتعتزم الدول الثلاث الآن الذهاب إلى أبعد من ذلك وإيجاد اتحاد اقتصادي وسياسي حقيقي كقوة موازنة لمجموعة (سيدياو) التي تسيطر عليها فرنسا وحلفاؤها الغربيون. وبهذا المعنى، أوصى وزراء الاقتصاد والمالية في البلدان الثلاثة (في تشرين الثاني الماضي) بإنشاء صندوق استقرار وبنك استثماري مشترك – اللذين تم إضفاء الطابع الرسمي على إنشائهما في قمة إعلان التحالف التي عقدت يوم السبت الماضي- بهدف تحقيق الاستقرار المالي.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار