سورية بين خطابين.. رقصة الجغرافيا السياسية
تشرين- ادريس هاني:
ينتهي الذّهان بتبلّد الأحاسيس وشلّ الرغبة في الفهم، ويقولون نظرية المؤامرة، وهي في الحقيقة غريزة تحول دون انفتاح الذّهن على الاحتمال، ويبدو هذا في التحليل السياسي ظاهرة، كيف تجعلُ الدعايةُ أمماً في حالة هياج، وأمماً أخرى في حالة شيطنة ومروق؟، إنّ الدماغ البشري رخو جدّاً إلى حدّ يبدو فيه مصدر شقاء العمران البشري.
هل يمكن لأمّة أن تخلو من مبادئ؟ هل يمكن، إن كانت خلواً من مبادئ، أن تضحي وتبالغ في التضحية والصمود طيلة عقود؟ هل توجد أمة مارقة تكافح من أجل العدالة؟ ومع ذلك تلعب الدعاية دوراً سحرياً في قلب حقائق التّاريخ وبنية الذهن البشري، إنّ الكراهية ليست فقط غريزة، بل صناعة أيضاً.
بناء عليه، لقد قدّمت عشرية الفوضى أفضل مثال على ذلك، فالدعاية وجدت لها جمهوراً مطواعاً للتّضليل، كما وجدت لها تيارات وعناصر وظيفية، واليوم حين نطحتهم استحقاقات الارتداد الجيوستراتيجي، آثر المرجفون الهروب إلى الأمام بدل الاعتراف ببؤس نوازلهم، ففضلوا تأويل مآلات مقارباتهم المتبلّدة، لكنها الغارقة في تطلّبات الانتهازية، بدل تخطيء مخرجات كهانتهم.
وخذ مثالاً عن الأحداث الدائرة في الشرق الأوسط والخليج، فالنقائض تترى، والهلاوس بالغة الأثر، اهتزت الجغرافيات من تحت الأقدام، ورقصت الأحداث فوق الرؤوس المتبلّدة، وفي نهاية المطاف، كان ما رأينا لا ما رأى المختبؤون خلف أصابعهم، يراهنون على زهايمر سياسي يمحق ذاكرة عُشرية العدوان.
حينما نقيس ما يُكتب اليوم عن سورية من ذات الحبر الذي كتب عنها بالأمس، نقف على تهافت متلصّص، والتفاف على الذّاكرة يصل حدّ المزايدة، ومع أنّ المراقب لسيرورة الأحداث يدرك تاريخاً من الحيص بيص، ويوميات اللُّهاث وأحلام اليقظة، لاسيما عن سورية التي أسقطوها في خيالهم عشرات المرّات، وَوَقَّتُوا لها مصيراً أسود، و«شيطنوا قيادتها» بلا هوادة، وبعضهم بات منظّراً لـ«الثورة» عبثاً، قبل أن تثأر الجغرافيا السياسية و (تبسق) في وجوه الذين كذبوا على الثورة والتاريخ والجغرافيا، فالثورجية باتت نصيراً للاحتلال، واختبأت الانتهازية خلف شعارات ظهر اعورارها وخداعها، وبعد أن التقت الجموع في شعار واحد وظهرت جيوش من قعر الخوابي المظلمة، للإطاحة بالحكومة السورية، ستختفي بشكل أسطوري كل هذه التشكيلات العظمى، أمام حرب الإبادة ضدّ الشعب الفلسطيني، أين طُلاّب الحور العين بعد طوفان الأقصى؟ أين كلّ التخوين لمن هم على خطّ النّار؟
في مثل هذا الوضع، أي قيمة للاستدراك، والالتفاف، والهروب إلى الأمام؟ من يدفع فاتورة 13 سنة من التحريض والتشنيع والمزايدة وتمثّل كلّ تعاليم الإمبريالية في نشر الفوضى، وتخريب بلد تحت عناوين زائفة وهلاوس التشنيع الممنهج؟
لا يستطيع أحد من هؤلاء أن يرفع عقيرته ويشرح حكاية عُشرية من التآمر والتحالف مع المنشقين ومع الـ«ناتو»، من اعتبروا القاعدة طليعة تحرر وطني، من تدفقوا على الحدود، من تبنّوا قضية مغشوشة لأسباب وخلفيات ظلامية، من كان لهم في الكواليس عُجر وبُجر. سوريو غوار الطوشه أذكى من أن يستغبيها باطل بطين.
لقد صمدت سورية وسقط المنافقون، وأعني بالمنافقين ليس المغرر بهم، ولا حتى من ناصبوا سورية العداء قناعة منهم ومن دون قناع، لكنني أقصد المنافقين الذين لعبوا على الحبال وعلى المفاهيم، ثم حاولوا أن يلتفوا على الأحداث، وظنّوا أنّهم بالانقلاب الصوتي سيركبون تاريخ الصمود والكفاح، اليوم اتضحت الرؤية، وتبين أنّ شيطنة محور الصمود، كان إفكاً عظيماً، لقد تشقلبت القراءات، بينما دمشق تفتح عاصمتها للسفراء العرب، بينما كذلك دمشق تعود إلى مقعدها في جامعة الدول العربية منتصبة القامة، باعتبارها عضواً مؤسساً للجامعة، وليس لأحد أن يمنّ عليها رجوعها، إنّ جيلاً من صحافة الارتزاق والكراهية والظلامية، يواجه اليوم الإفلاس، فإمّا راكباً موجة الصمود وإما هارباً إلى الأمام، ونحن من أحوالهم مشفقين.
ومناسبة هذا الكلام، أوّلاً دفع بعض أشكال التحليل الاستدراكي، بعد أن فشلت كلّ مخططات الإطاحة ببلد صمد صموداً أسطورياً، صموداً لا يريد أن يعترف به المرجفون، أو يريد ركوب نتائجه الانتهازيون، كما أنّ المناسبة هي مخرجات اجتماع القيادة المركزية لحزب البعث الإشتراكي، ومخرجات الانتخابات التي انتهت بتشبيب لافت لقيادات الحزب، وإعادة تموضعه وفق منظور متقدّم، وتجديد آليات العمل وإعادة ترسيم حدود العلاقة بين الحزبي والسلطة وفق مقاربة تأخذ بعين الاعتبار جملة التحولات والتحديات، وهذا يؤكد أنّ تياراً حيوياً ينتشر من جديد على أرض تعرضت لنكبة كبرى بسبب الحرب الكونية على سورية، التحدي ما زال قائماً، ولكن الصمود أيضاً ما زال واعداً، فالذي له حقّ رسم مستقبل سورية هو من صمد وكافح، وليس من خان وغدر، وكما إن قراءات كثيرة سقطت قبل أوانها، فكذلك كل قراءة تتطفّل على مستقبل سورية اليوم وفق مقاربات كيدية، ستسقط كما سقطت أخواتها.