«فيلم على الخط».. جريمة سينمائية دفاعاً عن حيوية الإعلام

تشرين- بديع منير صنيج:

ينجح فيلم “على الخط” لمؤلفه ومخرجه روموالدو بولنجر في شد انتباه المتفرجين إلى الحد الأقصى، إذ إنه يجعلهم في حالة دائمة لترقُّب ما سيحصل، حتى إنه يجعل الخاتمة هي الذروة الدرامية الأعلى ولو كانت على شكل قنبلة تنسف جميع ما قبلها.
يبدأ الشريط السينمائي الذي يعرض الآن في صالات سينما سيتي بدمشق بكاميرا مقلوبة لجثة تقطر دماً، لا نلبث أن نكتشف بعد اعتدال زاوية التصوير أنها شخصية إلفيس (ميل جيبسون) وهو يحكي حكاية ما قبل النوم لطفلته، بواسطة دميتين صغيرتين.
أما الدَّم الذي رأيناه قبل قليل فهو ليس سوى بضع قطرات انسكبت من كأس لعصير التوت البري، وتستمر مماثلات هذه الصدمة البصرية في السيناريو مشكِّلةً المحرك الأساس للتشويق والغرابة في الآن ذاته.
إلفيس مقدِّم برنامج إذاعي مُخصَّص للحديث مع المؤرَّقين والاستماع إلى همومهم، يلتقي في مدخل بناء الإذاعة مع شاب مصاب بالفصام ويعتقد أنه المسيح الذي سيخلص العالم، لكنه في الوقت عينه يبحث عن الشهرة من خلال برنامج إلفيس، لكن الأخير ينصحه باللجوء إلى منصات التواصل الاجتماعي الأكثر جماهيريةً.. يتصاعد التوتر الذي يصيب المذيع في بداية فترة عمله، عبر صراعه مع زميله جوستين (كيفين ديلون) الذي يتهم إلفيس بأنه راغب بالاستئثار ببرنامجه، ثم بتوبيخ مديرته سام دوبوس (نادية فارس) لتراجع متابعي برنامجه، وعدم استفادته مما يُعرض على وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت أكثر جاذبيةً من الإذاعة.
ميل جيبسون بموهبته العالية استأثر بانتباهنا منذ اللحظة الأولى، بصوته الرخيم، وجاذبيته في تقمص شخصيته، والانتقال بها من حالة حنان الأب والزوج، إلى الاستهتار وعدم المبالاة بكل الانتقادات في مكان العمل، واستخدام الظُّرْف لمواجهتها وتخطّيها، ثم الانتقال إلى مستوى أعلى من الأداء عندما يقع أسيراً لمكالمة من متصل غامض اسمه غاري (بول سبيرا) اختطف زوجته وابنته وهدَّدَه بأنه سيقتلهما وسيُفجِّر مبنى الإذاعة بالكامل إن لم يذعن لمطالبه السادية.
مرةً يطلب منه أن يرمي نفسه من على سطح البناء، لكنه لا يمتثل، وأخرى بأن يقتل زميله الذي يسرق أجهزة الحاسوب من المستودع، وثالثة بأن يعترف بعلاقته مع شريكته في البرنامج ومنتجته (عليا سيرور أونيل). وكل ذلك على الهواء مباشرةً، بحجة الانتقام من إلفيس لفظاظته في التعامل مع منتجة برنامجه السابقة التي انتحرت بعد أزمة نفسية ألمَّت بها بحسب زعم المتصل الموتور.
وسط هذه الأجواء من التوتر العارم تبدأ لعبة البحث عن المجرم الذي يعرف كل تحركات إلفيس ومُرافقه مخرج البرنامج الإذاعي ديلان (وليام موسلي) ضمن المبنى الذي بات بمثابة سجن ممنوع الخروج منه. ويفاقم الوضع حوادث القتل المتتالية لرجل أمن الإذاعة ثم جيستين ولص الكمبيوترات، وزاد من إحكام المصيدة التي نفذها غاري المتفجرات التي زرعها في كل مكان، واستخدامه لكاميرا الدرون، وولوجه إلى كاميرات المبنى كاملةً.. وبعد انخراط المذيع ومرافقه الشاب بلعبة القطة والفأر ينجح إلفيس بالوصول إلى غاري في غرفة الأستوديو بعد أن أوثق الأخير رباط منتجة البرنامج وزميلها، لكن الخوف من تفجير المبنى بالكامل يعيد اللعبة إلى أولها من الرضوخ إلى مطالب المجرم.. إذ طلب إلباس ديلان سترتين مليئتين بالمتفجرات بعد أن تم خلعهما من ابنة إلفيس وزوجته اللتين لم تظهرا البتّة بعد المشهد الأول، وبعد الرُّعب الذي اعترى ديلان يتبيَّن أن الأحزمة الناسفة مُجرَّد ديكور، وأن الأمر برمَّته هو مزحة يقوم بها غاري الشهير جداً على برنامج التيك توك وله ملايين المتابعين.
وإمعاناً في الإثارة، وبعد الارتياح الذي شعر به إلفيس خاصةً أن عائلته بخير، نراه مع الآخرين يتوجهون إلى ديلان بالاعتذار، لكنه يرفض الانخراط باللعبة، وخلال اندفاع الجميع لتهدئته يتعثر ويسقط من على الدرج ويصدم رأسه بأحد الأنابيب الضخمة ويموت. هنا تتصاعد الدراما إلى أقصاها مع إحساس إلفيس بالندم على وفاة ذاك الشاب، وأثناء تسهيل هروبه من قبل مديرة المحطة الإذاعية بعيداً عن أعين وسائل الإعلام يستمع المذيع على الهواء مباشرةً إلى أن موت ديلان أيضاً كان إتماماً للعبة، وأن كل ما حصل لم يكن سوى احتفاءٍ بعيد ميلاده، فيظهر الجميع فرحين بما فيهم الموتى المفترضون ليعدهم إلفيس بالقصاص منهم في المرات القادمة.
ورغم أنه في الكثير من مفاصل الفيلم كنا نشعر بأن هناك خللاً ما، إلّا أن ذلك لم يمنع من المتابعة حتى نهاية الدقيقة الخامسة والتسعين منه، إذ كان الترقب سيد الموقف، وهو ما بناه بولنجر بعناية، مع اتكائه على كاستينغ مميز.. وبين فداحة الموت وسهولة الحياة، استطاع الشريط السينمائي الاحتفاء على طريقته الخاصة بالإذاعة، موجِّهاً أصابع الانتقاد للتقليديين في تقليل حيويتها، وضرورة تلقيحها بمفرزات التواصل الاجتماعي الحديثة لتحافظ على ألقها المنشود، وكي لا تبقى خارج العصر.

وكأن هذا الفيلم الذي أنتجته سابان فيلمز Saban Films هو رسالة من الفن السابع إلى غيره من وسائل الإعلام، لمجاراة الزمن وعدم الارتهان للثوابت الكلاسيكية في التعاطي مع مختلف المواضيع، واقتراف ما يشبه جريمة بحق كل ما لا يؤدي إلى حيويتها وراهنيتها وتثبيت مكانتها الأثيرة في قلوب المؤرَّقين والمكدورين.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار