ربيع التّحرر بكُلفة باهظة

تشرين- ادريس هاني:

وكنت أتمنّى من مُنَظِّري “الربيع العربي” أن تشرئبّ أعناقهم كما اشرأبّت حين تقرّر نحر ما تبقّى من كيانات عربية بيد أبنائها الذين فصلوا بين الثّورة والاستراتيجيا. ولأنّهم لا يملكون المضيّ في مُغالطتهم التّاريخية، هاهم يترنّحون بين تهوين فعل المقاومة، وتعزيز اليأس وخيبات الأمل، والصمت حُيال ما يجري في الساحات الطُّلابية في المركز الغربي، سيتساءل المتتبع لتلك المفارقة: لماذا اهتزّ الرأي العام والجماهير الطلابية في الغرب لغزة ولم يهتز للربيع العربي؟
كل ذلك تطرقنا له، حين كان الصخب قد بلغ مداه، حين قلنا لا ربيع إلاّ الربيع الفلسطيني، أي حين تكون هذه الأخيرة محو الحراك، فهي ضامنة لاتحاد التحرر الاجتماعي مع التحرر الوطني.
كان منظرو الفوضى العربية يفصلون بين المقدمة وذي المقدمة، اختلَّ معيار العلم، وكانت الغاية تقديم الوطن العربي قُربانا لـ”ناتو”.
ربيع العرب هو اليوم قائم، وهو وحده من جلب أصدقاء حقيقيين من داخل الجماهير الغربية، وليس أصدقاء من داخل المنظومة الإمبريالية ومحاورها، آن الأوان اليوم لنقول لمنظري الفوضى، بأنّ صمتكم يقتلنا، تهوينكم لما يجري خيانة، هروبكم من جوهر النزاع وتصعيد السُّعار تخفيفاً عن العدوّ، خداع.
كان المُلام يستقوي ويتوسّل بالثورة مفهوما، ويغالطون بالتباس المفهوم، حيث قلنا لهم بأنّ المفهوم في رتبة المبادئ لا خلاف حوله البتة، لكن الخلاف في التنزيل والامتثال. فلقد كانت الفوضى مقدّمة لتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، تلك التي أُهملت، فلا صوت حينها كان يعلو على صوت الفوضى، بعد أنّ قيل إنّ فلسطين ليست أولوية، وبأنّ إقحامها في سياق الربيع هو مُغالطة، وحين كان الطواف على منابر إيبّاك “فهلوة”ربيعية، قلت يومها لشباب فلسطيني: “انتبهوا، فمن الممكن أن تصححوا الحراك بانتفاضة فلسطينية، هذا حراك سينتهي بتصفية القضية الفلسطينية”، وهذا ما حصل بالفعل، بل إنّ مراكمة الاحتقان، والسُّعار المفرط ناجم عن عشرية النِّسيان للقضية الفلسطينية. فالأراضي المحتلة لم تواجه عنفاً أكبر من هذا من قبل، لأنّها لم تتعرض لنسيان أكبر كما تعرضت له في عشرية الفوضى.
استعدى قادة الفوضى المقاومة وشوّشوا على برنامجها، وشنّعوا بما أدّى إلى حفر هوة بين الثورة والمقاومة، بين التحرر الاجتماعي والتحرر الوطني. ولهذا السبب كانت المقاومة مارقة بينما الثورة صديقة في نظر الإمبريالية، ولأوّل مرة باتت الثورة صديقة للرجعية، ودخل مفهومها في التباس تاريخي، لقد تمّ استغلال بؤس الشارع العربي، وهشاشة الأوضاع، حيث جانب منها هو نتاج للتموضع الاستراتيجي في دورة علاقات الإنتاج بين المركز والهامش، التوزيع الإمبريالي للعمل، التفقير كاستراتيجيا للتبعية.
في حراك الفوضى لم تُرفع رموز وأعلام فلسطين، لأنّ ثمة تواطؤاً ضمنياً وموضوعياً، وانتهازية عارمة، أي وجب أن لا نستفز الاحتلال، بل علينا طَمْأنته برسائل مقروءة وخفية، بأنّك لست عدواً استراتيجياً. لقد باعوا القضية التي كانت ولا زالت جوهر الصراع، وهذا ما يفسّر ضعف الشارع العربي، لأنّ صناع الرأي العام تراجعوا وبدؤوا ينشرون خيبات الأمل، خشية أن يتجاوزهم التاريخ، فهم ولهذا السبب يتكاملون مع الاحتلال، فودّوا لو ينتصر ويستمر على عنفه، لتبقى لهم أدوار وظيفية. إنّ الحراك الطّلابي الغربي ضربة على قفا منظري الهزيمة المقنّعين، دعسة على سوفسطائيي الربيع من الجيل القادم في غرب هو في حالة تحوّل أنطولوجي، وهو من سيفرض التحول الإستراتيجي، لقد عاد المعنى للحراك الشعبي التحرري، واستعاد معناه الذي تمّ تهريبه وقرصنته، بعد أن لطّخته المفاهيم الجرباء سليلة غرف العمليات التدجينية.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار