تشكيليون في غواية سرد مدوّنة الوجوه.. عن ظاهرة «البورتريه» والوجه كصورة في المشهد التشكيلي السوري

تشرين- تحقيق: علي الرّاعي:
تنوّعت غوايات الفنانين التشكيليين على مدى جمالياتهم اللونية من خلال “لازمات” فنية شكلت أسلوباً طبع تجاربهم التشكيلية من البداية وحتى الخواتيم.. بعضهم وقع في غواية إعادة الحياة للمدن العتيقة من دمشق إلى معلولا وغيرهما، وبعضهم الآخر سحرته الزهور، وبعضٌ ثالث نوّع على الدوران من خلال استثمار المولوية، أو حركة الدرويش في دورانه المعروف وغير ذلك..

غواية الوجوه
غير أن الوجه البشري بدوره طالما شكل إغواءً للكثير من الفنانين التشكيليين حتى أمسى ظاهرة في المشهد التشكيلي تراوح تناوله بين التصوير الواقعي إلى مناخات التحوير والاختزال وحتى تخوم التجريد.. وعلى مختلف اتجاهاتهم الفنية: نحت، تصوير، فوتوغراف، و.. حتى كاريكاتير، بل نادراً ما «نجا» فنان تشكيلي سوري من طغيان هذه الغواية، البعض منهم كان الوجه من علامات تجربته، والبعض الآخر أغواه مراتٍ قليلة، غير أن ثمة بعضاً ثالثاً أوقف كامل التجربة للاشتغال عليه، أو قد يكون الرأس، أو بورتريهاً، وهي جميعها، أي كل هذا النتاج يكون الوجه هو الشخصية الرئيسة في العمل الفني، وعلى صعيد السوريين، فإنّ الشغل على الوجه كان هاجساً لأكثر من فنان، وهذه عينة اشتهرت بالاشتغال على الوجه، أو ما يُعرف في النقد التشكيلي بـ«البورتريه»: مروان قصاب باشي، كاظم خليل، طلال معلا، سبهان آدم، نعيم شلش، حسن أدلبي، و..الأخير نذكر أن شغله كان على صعيد الكاريكاتير.

كاظم ومروان وسبهان
ولعلّ أبرز ما يشد في الوجه هي العيون التي في رأي الكثيرين تعكس شخصية المرء ومشاعره وطبيعته، وقد اهتم بالعيون الكثير من العلوم منها: علم الفراسة وعلم النفس وعلم التجميل باعتبارها مرآة القلوب، أو مرآة النفس، وقد رأى فيها الشعراء نوافذ إلى الروح، أما الأطباء فعدّوها نوافذ إلى الجسد إذ يستعملها الطب للكشف عن أكثر من ثلاثة آلاف حالة صحية مختلفة.. وربما الفنانون التشكيليون رؤوا فيها كل ما تقدم.. مروان قصاب باشي الذي تعامل مع موضوعة الوجوه فترة طويلة، وهو يعمل في هذا الجانب بمنطقٍ تعبيري بحت وبمساحاتٍ واسعة، قدّم أفكاراً بوجهٍ واحد أو بتعدد الوجوه.. وهو على الأغلب قرأ وجوهاً بعينها، وجوهاً لمبدعين طالما شغلونا بنتاجهم الإبداعي المتنوّع: كالفكر، أو الرواية، وفي الشعر كأدونيس على سبيل المثال، أو عبد الرحمن منيف و.. غيرهم، لكن الذي قُدم في النهاية كان يعتمد على امتلاك القيمة، وكان ثمة تحايل على هذه الملامح، لتصل إلى روحها فقط أو ما يُشير إليها، وعندما رسم الفنان مروان قصّاب باشي أدونيس فقد رسم الإبداع وليس أدونيس نفسه، أدونيس الذي شكّل وجهه إغواءً لافتاً للعديد من الفنانين، ولم يقتصر الأمر على مروان قصّاب باشي فقط..

كاظم وحكاية الرؤوس
وعندما اشتغل الفنان كاظم خليل على الوجوه، فقد كان على شاكلة التعبيريين الذين غيروا تصوراتنا العميقة والذين كانوا قد تنبؤوا بالأحداث المأسوية للقرن العشرين.. كاظم خليل يجمع، إلى ما وراء قواهم الخفية، شعوراً غريباً يربط الهلع باللعبة الوجودية بين الإنسان والموت.. قرأ كاظم خليل في الوجوه الإحساس المأسوي الذي يدفع إلى الهاوية، ويفتح على وجوه تؤدي إلى عــالم قد شوهد في السابق، وعلى طريق أثقلته جميع أهــوال الأرض. هناك يأس ضمن هذا الرعب في استكشاف الجنـــون، توقعات متميزة بالهلوسة والهذيان، تختــرق اللوحة؛ هي مجموعة من إشارات مهددة ومتعصبة تنذرنا بهجوم.. الهلع يعلن العته الذي يهدد البشرية.. تبقى لعبة الفنان جهنمية تقريباً، والتي تتجنب العنف، عاكساً التعابير المشوهة في مختلف الوجوه التي تناولها في لوحاته..

طلال معلا والتجربة البنائية
أما الفنان طلال معلا فقد اختصر، كما يقول، ملامح الوجه والأقنعة والثيمات الأساسية على عمل فني.. اللوحة في رأيه ليست وجهاً، بل هي تجربة لونية بنائية، كما يمكن الغوص في تفاصيلها للوصول إلى الحالة التي يريدها، وإذا كان التاريخ حاضراً، أي إنه يمتد في عمق الزمن، وهذه الانتقالة لدغدغة الحواس، وللتعامل مع الامتداد الزمني والتكثيف في العمل الفني، لجعل الشخص على صلة في عين الشخصية، إضافة لإضاءة كهفه الداخلي.. يكون الوجه بوابة لدخولها من جديد للتعبير عن حالات الإنسان الداخلية.
كل واحد من الذين تمّ ذكرهم له خصوصيته، ويختلف في تقديم هذا الوجه عن الآخر، فالتقنية اللونية لدى مروان قصاب باشي تختلف عن «جنون كاظم خليل» في وجوهه التي اشتغل عليها مطولاً بتفل القهوة قبل أن يلونها بالألوان الزيتية، ومن تجسيدها في أعمال نحتية.. ولاسيما في التعامل مع ملامح الوجه، فقد تكاد الغرابة تطغى على الوجه عند الفنان كاظم، بينما سبهان آدم فقد قدم تلك الوجوه الوحشية المسخة، حيث يدخل في أعماق الإنسان الشرير الذي أكثر الخير بداخله، لذلك برزت عنده تلك الوجوه المخيفة وليست الخائفة كما عند كاظم خليل.

خوض المغامرة
و.. من دون تحليل طويل – يعتقد طلال معلا – أنّ كلاً من هؤلاء الفنانين السابقين تناول طرفاً محدداً للوجه، فالحالة الاجتماعية هنا لها دورها عند الفنان التشكيلي الذي يخوض هذه «المغامرة». وهذا ما انعكس في سكونية إنسان مروان قصاب باشي التي تجلت بالألوان الفرحة، و.. يمكن الحديث هنا عن تجربة سعد يكن أيضاً الذي له أيضاً خصوصيته في هذا المجال، والتي ربما كثّفت مختلف تلك الحالات السابقة بغواية لونية ما، وأي شيء سنتناوله في هذه التجارب هو القيمة اللونية، والبناء، وهي جميعها سورية بامتياز.

إغواء على مدى التجارب
ربما من هنا كان هذا الإغواء الذي شدّ الكثير من الفنانين في العالم، وفي سورية أيضاً، لأن يقرأوا الوجوه، بهذه الرؤى البصرية التي اشتغلوا عليها على مدار عشرات اللوحات، والمنحوتات، هذه الوجوه التي تبدو للوهلة الأولى أنها ذات خيارات ضيقة وقليلة للفنان التشكيلي، فللوجه صورة واحدة هي الصورة التي وجد بها، لكن، حتى هذه الصورة الواحدة تتعدد بين الولادة والموت – على ما يرى أدونيس أيضاً- إلى درجة قد تبدو فيه أحياناً عند الشيخوخة نقيضاً لهيئتها عند الطفولة، أو كأنها صورة لوجه آخر، أو كما لو أن للصورة الواحدة أشكالاً كثيرة، فهل يشكّل الفنان الوجه ذاته أم يشكّل صورته؟ هل الوجه ماهية ثابتة، أم إنه مجرد علاقة؟ علاقة بينه و بين الجسد، بينه و بين الزمان، بينه وبين الضوء، بينه و بين النظر، و.. بين الآخر.. ؟!

أسئلة ملونة
كلُّ هذه الأسئلة شكلت للكثير من الفنانين السوريين هذا الهاجس لقراءة الوجوه تشكيلياً فكانت أن شكلت هي الأخرى أحد ملامح وجوه شغل الفنان التشكيلي، هكذا تبدت لدى كل من كاظم خليل، نعيم شلش، طلال معلا، سبهان آدم، و.. آخرين. ولكلّ فنان من هؤلاء أسلوبه الذي تميّز من خلاله، وقليلاً ما شاهدنا تقاطعاً في تجارب هؤلاء الفنانين، برغم إنهم يتناولون الحالة نفسها أي «الوجه» ومع ذلك، فقد شكلت الوجوه لهم خيارات كثيرة للتنوع، على عكس ما قد يُوحي به الحيز الضيق، تنوعت بين التأمل كما عند معلا وشلش على سبيل المثال، وبين تراجيديا غنية لدى كاظم خليل، بينما سبهان آدم أخذ من الموضوع قباحة الوجوه كحالة جمالية فنية نوّع عليها عشرات المواضيع التشكيلية، و.. أما شيخ هؤلاء الفنانين، وأقصد مروان قصاب باشي، فقد قرأ تراجيدياً وجوه الأصدقاء بألوان خاصة لا يمكن قراءتها إلا بعيون قصاب باشي نفسه.!

وجوه الخذلان
في هذه الوجوه يحاول المرء عبثاً تلمس حالة سرور، حتى وإن جاءت فهي أقرب إلى التكّهم، الأمر الذي يمكن قراءته على أنها وجوه الخسارة والخذلان، و.. حتى العجز في بعض الأحيان.!!!
«الوجه جسم، أين يبدأ هذا الجسم؟ كيف نحدد بداية له؟ أيبدأ بالعين؟ بالجبين؟ بالشفة؟ بالأنف؟ بتغضّن فيه؟ بثنيةٍ؟ لكن هل للوجه بداية؟ أليس سؤالنا: أين يبدأ الوجه كمثل سؤالنا: أين يبدأ جسم الشمس، أو جسم الماء، أو جسم الهواء؟ هل نقول، إذاً، ليس لأي جسم شكل محدد نهائي ؟» المعنى – في رأي أدونيس – سائلٌ متحركٌ، ولئن كان للجسم معنى فشكله يجب أن يكون مثله، سائلاً متحركاً، وشكل الجسم الواحد، إذاً، يتغير باستمرار. لنقل بتعبير آخر: للمنتهي أشكال لا تنتهي، هل يتغير الأمر إن غيرنا لفظة «شكل» بلفظة «صورة»، وقلنا: الوجه صورة؟.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار