اليوتيوب… و”جماليات” السرقة!

دمشق- جواد ديوب:

أمرٌ مزعج وصادم ومحزن أن يرى أيُّ مبدع نتاجَه الأدبي أو الموسيقي أو الفني أو العلمي عرضةً للاستباحة، سواء من قبل أشخاص أو مؤسسات أو مثلاً قنوات وصحف ومجلات أو أن يتم اجتزاء أعماله ونسخها وتلصيقها وعرضها بطرق تشوه “جوهر” العمل الأصلي، وتخرّب معماره الجمالي الذي أكل من وقت وجهد وروح المبدع.
عدا عن خساراته للأرباح المالية القليلة أصلاً أو المهدورة أو المهضوم حقه فيها سلفاً والتي تذهب إلى جيوب “القراصنة” الذين يطبعون مثلاً مئات النسخ المزيفة/غير الأصلية ويبيعونها في “السوق” التي تستهلك وتبتلع كل شيء، من الكتب والروايات إلى “سيديات” الموسيقا، إلى الألبسة والماركات الشهيرة المقلدة والمنسوجة بمواد وألوان لا تشبه الأصل إلّا بالشكل، فيما الجودة والأصالة ودموع وأفراح المبدعين غائبة عنها وعمّن سيقتنونها من “الزبائن” المخدوعين أو الذين يصدقون الكذبة/التزييف ربما رغبةً منهم بالشعور بأنهم يقتنون تحفاً عالمية خالدة!
ولعلّ تلك الأسباب أو المشكلات حرّضت الكثير من البلدان والشركات والأفراد للانضمام إلى قوانين حماية “حقوق الملكية الفكرية” عسى بعضاً من الإنصاف التاريخي يعود على المبدعين والمخترعين ومكتشفي الطفرات الفنية، وبالتالي يحصل ورثتهم لاحقاً على شيء من الإنصاف المعنوي والمالي.
لكن الواقع رغم قسوته وبشاعة بعض جوانبه يقدم لنا ملمحاً يمكن اعتباره “إيجابياً”،
أفكر بهذه “الإيجابية” كلما شاهدت على اليوتيوب (هذه الشبكة الإلكترونية العملاقة المذهلة المدوّخة) مقاطعَ بصرية سمعية من مقابلات نادرة لعظماء مثل الرحابنة أو شعراء مثل أدونيس وسعيد عقل ونزار قباني، أو نتفاً من أعمال عظيمة من مسرحياتٍ وأغانٍ وأفلام وحتى حلقاتٍ عن صناعة أي شيء، إذ إن اليوتيوب بات يتضمن حرفياً كل شيء حتى التفاهات والسخافات، أقول كلما غصت أكثر وأكثر في تلافيف تلك الشبكة، شكرتُ في سري تلك “الإمكانية التقنية” أو ذاك الاختراع العلمي الذي أتاح لنا أن نستمتع بذهب الأزمنة الماضية ونثراتٍ مضيئةٍ من حياة العظماء التي اختفت تماماً من العرض على شاشات التلفزة الوطنية لبلاد أولئك المبدعين، أو ربما سُرقت من أرشيف التلفزيونات والإذاعات وسرّبت كلها أو بعضها لتصل إلينا ممنتجةً أو معدلة بكل أسف.
ومن جماليات تلك الإمكانية أيضاً، رغم عدم الدقة في كثير منها، أننا صرنا بكبسة زر قادرين على معرفة اسم الملحن أو كاتب النصوص أو المغني الأصلي لتلك المقطوعات الموسيقية التي سكنت وجداننا أو أزهرت عليها طفولتُنا أو أهديناها يوماً لأحبتنا من دون أن نعلم أنها لفلان أو فلانة في الأصل، أو ربما نسينا في زحمة الحياة لمن هي فعلاً واكتفينا بلذة الفرح بها أو البكاء على حالنا بسببها ومعها.
هي إذاً “جمالياتٌ” أهدتنا المتعةَ بين أكوام من القمامة البصرية والسمعية التي تهيلها على الجمهور بعضُ قنوات عربية معاصرة أقل ما يقال فيها إنها تسطّح عقول الشباب وتُجرِّفُ ما بقي فيها من أمل ومعرفة، هذا إن لم نقل إنها تعمل بذكاء وتخطيط لإشاعة الهشاشة الأخلاقية والفكرية تحت غطاء الموسيقا والرقص.
أعلم -كما أقول وأكرر دائماً- أن لكل زمان إيجابياته وسلبياته، مفاتنُهُ وتشوّهاته، أناسه الطيبين المبدعين وأولئك الأبالسة… لكن ما الذي يمكن أن تكون عليه الحال لو استيقظنا يوماً وقد احتفى تماماً كل ما هو على “اليوتيوب” في وقتٍ لم نعد نجد في أرشيف القنوات الرسمية تلك الكنوز العظيمة!؟
لذلك ربما علينا أن نؤرشف حياتنا ليس فقط في أماكن تخزينٍ إلكترونية احتياطية، وليس فقط بالطرق التقليدية القديمة التي صار بعضها غير موجود أيضاً… بل أن نؤرشفها جيداً، أن نسرقها من فم الزمان، ونحضنها عميقاً في “رقاقات” قلوبنا و”فلاشات” مساماتنا، وألوان عيوننا خوفاً عليها من ممحاة النسيان… وليت ذلك ينفع أيضاً!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار