عن اجتهاد – ضرار
تشرين- ادريس هاني:
أصبح لعبارة اجتهاد وما يلزم عنها من مفاهيم، نظير التجديد والتنوير، رونق خاص في زماننا، ما فتىء يجتاح المشهد بكثير من الصخب وقليل من الإنتاجية، حقاً إن نصيب عصر التفاهة لدى المشتغل السبهللة في قطاع الاجتهاد والتجديد، كبير حد الخلط النكد بين إنشاء الداعية واستدلال العالم، لقد تراجع الفكر الإسلامي تراجعاً فاحشاً، منذ استسهله الطغام، ومنذ أصبح حرفة من قصر عن إدراك واستيعاب سائر الفنون التي بها ينهض العلم، ومنذ انبرى قراصنة المفاهيم للحرفة الجديد، إن مجال الفكر الاسلامي لا يفتح خوابيه لمن أخطأ العبر- مناهجية وتعلق بأهذاب سقط متاع المعرفة، باعتبار أن وحدة العلم لا تتحقق من دون استيعاب لهذا التركيب الذي يفرض تداخل العلوم، ليس ادعاءً بل استيعاباً، وهو مقترحنا منذ سنوات تحت طائلة الدعوة لاستيعابية مقابل بؤس الانتقائية والاختزالية، لا تقف عند احتواء المجال الترددي للسفر العقلي بين الأقصى والاقصى في تاريخ العلم، بل هو استيعاب لأرخبيل العلوم التي تباعدت بفعل الزمن وتراكم الاختصاص والقصور المناهجي أو الجهل البيداغوجي الذي أعفى العقل من إدراك التركيب.
اليوم، نشهد انخراطاً غير مسبوق في سعاره، في مزعومة اجتهاد يرعى على التلقي الشعبوي والتسطيح المنهجي، يقوم على لعبة الإلهاء النكد للعقل، في شواغل تلهيه عن مقاصد المعقول.
وفي غياب الأساس النفسي لقيام العلم الحقيقي، أعني حسن النية والمواقف القاصدة، نصبح أمام شكل من اجتهاد – ضرار، غايته الإضرار بالعقل وتسخير مكتسبات العلم ومفاهيمه في التضليل، أي، حين يصبح التجديد ضد التجديد، في مغالطة نصطلح عليها مغالطة التموقل؛ أي كيف يتم استعمال المقولة في التضليل، ليصبح الجهل علماً، والتسطيح منطقياً.
في اجتهاد ضرار، لا تتحقق الخبرة الفقهية بمستوييها الأكبري والأصغري، ولا المنطق بكاطيغورياسه القديم والمحدث، ولا الفلسفة بقلقها القديم والحديث، ولا مخرجات العلوم والمناهج، ولا مستجدات الأصول في كفايتها وتهذيبها.. إن الاجتهاد والتجديد مزعومة اختطفت من إطارها الخبروي إلى مبارك البقر في اجترار ما تحبل به السوق السوداء من مكرور المتشابهات، وتضليل سيبراني سيال، وهنا يكمن واحد من مظاهر التآمر على العقل المسلم، حيث أريد له أن يبقى معتصراً بين كو كلوكس كلان إسلامي مستغلق وبين مزعومة التجديد غير الوفي لأي أصل من أصول البرهان، في جري صلوقي مستنفر بلا منهاج قاصد ولا مصلحة عامة ولا كمامة تقي جسد المعرفة من شقاوة النهش وسعار التسطيح وتكالب قطاع طرق المعرفة، الآخذين بها من ذيولها لا من نواصيها.
اجتهاد- ضرار، ليس منتجاً للمعنى، بل هو أداة من دون استنتاج وجعجعة بلا طحين، يستغل اجتهاد- ضرار وضعية متلقٍ في بيئة محكومة بشروط الشعبوية والجهل، إن إثارة شواغل سطحية في حياة الأمم والمجتمعات ليست بالضرورة هي عنوان تجديد وتنوير، فأي مزعومة لا تأخذ بتفاصيل البرهان، مقدماته المضمرة ونتائجه البعيدة وتوابعه المحتملة، فهي إلهاء وإشغال للعقل في متاهات تفتعلها الغريزة الإيديولوجية المناكفة للمعرفة، بتعبير آخر، إن اجتهاد ضرار شكل من الباكتيريا الضارة في جسم المعرفة، من خلال شبكة الاستشكالات الخبيثة الحاجبة للاستشكالات الطيبة الموصولة بمتطلبات المصلحة النظرية والعملية، حيث تصبح العملية معكوسة: تثوير الطغام على العقلاء، تغليب التيكتوك على الآغورا، وطلب المعقول في اللامعقول، وثقل الموازين على خفة أحكام قيمة.
إن البدائل التي يمتحيها ما أسميه اجتهاد ضرار من الشك اللامنهجي؛ أي الشك الغبي الذي لا يأبه بالمصلحة السلوكية، ولا بالنظام العام للأشياء، ولا بالنسق في وضعية تصريف أعمال المعقول الجمعي قبل التعاقد على باراديغم أكثر نجاعة لقوم يعقلون، هو امتحاء طفيلي، يرعى على ما اجتهد فيه قوم صلحاء، لأهداف قوم تبع.
وكما يستغل اجتهاد ضروري بؤس الشروط المعرفية والوضعية المرضية لمتلقٍ في حالة سراح، فكذلك تصبح مهنة اجتهاد ضرار أفضل وسيلة همروجية لاستغباء الأمم وإضعاف نسيجها السوسيو- ثقافي، أنها أفضل وسائل التدويخ الرمزي، إن الغاية هو إدخال حالة التحشيش الرمزي للاستهلاك العمومي…