بعيداً عن الهريسة الشهيرة… صورٌ تُوثّق تراث النبك ويبرود وقارة
تشرين- لبنى شاكر:
النبك؛ مدينةٌ اعتاد سكان دمشق التوقف عندها لشراء الهريسة من الاستراحات على أطرافها في طريق عودتهم من اللاذقيّة وطرطوس في عطلة الصيف، وحتى زمنٍ قريبٍ اختُصِرت يوميات المدينة وجارتيها في منطقة القلمون الغربي يبرود وقارة، بالإشارة فقط إلى الجو البارد والاغتراب المُتوارَث وبالتأكيد الهريسة الشهيرة، غير أن البحث في تاريخ المدن الثلاث وحاضرها يكشف كثيراً من التفاصيل والمُفارقات، والأهم أنه يكسر الصورة النمطيّة المكرورة عنها، من هنا كان معرض مؤسسة موج التنموية مُؤخراً في صالة زوايا تحت عنوان “قطعة من مبارح واليوم” ضمن مشروع “مصطبة” الهادف لتعزيز التماسك المجتمعي عبر إحياء وتوثيق التراث الثقافي المادي واللامادي.
نقلنا تقاليدنا إلى مجتمعٍ آخر لِنؤكد أننا رغم التمدن الذي نعيشه لم نفرّط في تراثنا أبداً
نقل التراث
استهلّت موج اشتغالها على فكرة التعريف بالحياة اليوميّة للمدن الثلاث بأن طرحت استمارة تشرح فيها غايتها، وسرعان ما بدأ التقصي للعثور على ما يُبرز الخصوصية ويُكوّن الهوية لكل مدينة من خلال الصور. يقول منسّق المعرض جعفر شكاس في حديثٍ إلى “تشرين”: “أردنا إشراك أبناء وبنات المدن الثلاث في تتبّع تراثهم وتعريف الآخرين به، فتوجهنا إليهم ودارت بيننا نقاشاتٌ طويلة حول كيفية تحقيق التماسك المجتمعي اعتماداً على الصورة، وضرورة التعاطي مع فكرة المعرض بشكل توثيقي أكثر من مجرّد التصوير الفوتوغرافي البحت، وهكذا اخترنا صوراً لـ 22 من المُشاركين، وعرضنا 66 صورة، توفرت فيها المعايير الفنيّة اللازمة، والهدف الذي انطلقنا من أجله”.
وحتى يُحقق المعرض مقصده كان لا بدّ من العرض في دمشق، يشرح شكاس: “نحن أبناء النبك ويبرود وقارة نعرف عادات بعضنا، بل إنها تكاد تكون مُشتركة في الطعام والمهن والألعاب الشعبية والأعراس وما إلى ذلك، لكن الآخرين لا يعرفوننا، لذلك نقلنا تقاليدنا إلى مجتمعٍ آخر، لِنؤكد أننا رغم التمدن الذي نعيشه لم نفرّط في تراثنا أبداً”.
في إحدى الصور يظهر غلي القهوة بالرمل مع شوي البطاطا قريباً من جبال اسكفتا في يبرود
لعبة المنقلة
من المشاركين فادي عربش، طالب في كلية الهندسة المعمارية، يقول لـ “تشرين”: “علاقتي بالتصوير بدأت منذ أعوام، كنت طالباً في الصف الحادي عشر، يستهويني التصوير بالموبايل، ومن ثم عندما امتلكنا كاميرا صغيرة في البيت، تعلّمت وحدي، واجتهدت لأطوّر قدراتي مع تطوير عدة التصوير الخاصة بي، وهكذا ازدادت خبرتي في المجال ومحبتي له، حتى تحوّل إلى مصدر دخل قبل عامين”، أمّا عن الصور التي قدمها للمؤسسة، ففي إحداها سيدةٌ كبيرةٌ في العمر، تشتغل طواقي الحجاج البيضاء، وهي مهنة تراثية اشتُهِرت بها منطقة يبرود، وفي صورةٍ ثانية مجموعة رجال يجتمعون في السوق لممارسة لعبة المنقلة، يُضيف عربش: “هؤلاء الرجال هم أول من خطر في بالي عندما قررت المشاركة في المعرض، فهم يلتقون يومياً للغاية نفسها، تحت أي ظرف، في البرد والحر وتحت المطر وفي الأعياد، يضحكون باستمرار، وكأنّ الطاولة ملجؤهم من كل الصعوبات التي نعيشها هذه الأيام”.
أجواء جبليّة
أصغر المشاركين في المعرض، غِنى حافظ وهي طالبة في الصف الثالث الإعدادي، تُحبّ التصوير ولا سيما ما يتعلق بالطبيعة والبيوت القديمة ووجوه الأطفال وكبار العمر، وتنشرها في صفحة خاصة في موقع التواصل الاجتماعي انستغرام، تقول: “مشاركتي في المعرض تجربةٌ غير مسبوقة بالنسبة لي، أحببتُ الفكرة لأنها تسلّط الضوء على منطقة القلمون بما فيها من بساطة وجمال”. وفي الصور التي قدمتُها سيدة مُحترفة في حياكة الكروشيه، رصدتُها تعمل في الطبيعة بين الجبال، وحاولتُ إظهار التفاصيل في وجهها ويديها اللتين تعملان بحنان وطيبة، والصورة الثانية لغلي القهوة بالرمل مع شوي البطاطا ضمن أجواء جبلية أيضاً، قريباً من جبال اسكفتا في يبرود، تشرح حافظ “دمجت الطبيعة والأشخاص وسعيت للتعريف بأشياء بسيطة من تراثٍ غنيٍّ نفتخر به، علماً أنني التقطت الصور بكاميرا موبايل خلال مسير يُقام كل يوم جمعة مع فريق كوشل سورية”.
التقطتُ سماكة جدران اللبن في الأبنية القديمة في النبك، والتي تُؤمن الدفء في الشتاء والبرودة في الصيف
البيوت القديمة
التقينا أيضاً، غفران الصوصو خريجة معهد تعويضات سنية وحالياً طالبة في كلية طب الأسنان، اعتادت التصوير في صغرها بكاميرا الموبايل، ومع الوقت طوّرت أدواتها واتبعت دورة تعلّمت فيها المبادئ والأساسيات، تقول لـ “تشرين”: “قصدت البيوت المسيحية القديمة في مدينة النبك، والتقيت بسكانها الذين حافظوا عليها كما هي، من بينها بيت عربي عمره 400 عام لعائلة الغندور، اهتمّ صاحبه بكل ما فيه مع ترميم بسيطٍ جداً لم يُغيّر من طابعه الأثري، كذلك صورت في روضة القلمون التي تمتلك إطلالة واسعة على النبك”.
وفي الصور التي اختيرت للعرض اعتنت الصوصو بالجزئيات ذات الدلالة، إحداها مثلاً تُبيّن سماكة جدران اللبن في الأبنية القديمة، والتي تُؤمن الدفء في الشتاء والبرودة في الصيف حتى إنها ساهمت في حماية السكان خلال الحرب، إضافة إلى الأسقف المبنية من قطع الخشب السميكة وفي جوارها فوق الأبواب كانت تُرسم أشكال الصحون يدوياً، كشكل للتزيين والديكور.