يرى أنّ القصيدةَ إعادةُ تشكيلٍ للواقع.. الشاعر عصام يوسف حسن: النقد متأخر عن الإبداع ومتأثر بالمناهج النقدية الغربية ومُروّج لبضاعتها
حوار: هويدا محمد مصطفى:
شاعرٌ يتميز بشمولية اللون المتجدد في قصيدته عبر السلوك اللغوي والعمق الذي يسكب فيه أوجاعه عبر نداءات إنسانية ليترك في ذاكرة القارئ هذه التأويلات عبر تقنية تفيض معها مخيلته بالبلاغة والتناغم المسبوك في بنية القصيدة والمتقدمة في تدفق الصور والعاطفة المرتبطة بمخيلة مشبعة بالرؤى والثقافة والإيقاع الزمني لتبدو الشاعرية مضيئة في عالم الشاعر عصام حسن الذي صدر له إلى اليوم أربع مجموعات شعرية: “تراتيل اللون الأزرق”، “ستائر الحضور والغياب”، “مقامات الحنين”، “وجدانيات وتجليات وعد بن أدرى”.. وهناك مشروع مرتبط بعلم العروض والتجديد في البحور الشعرية قيد البحث والإنجاز.. وللغوص في عالم الشاعر عصام حسن كان لنا معه هذا الحوار:
ما قبل النص
* كيف يتهيب الشاعر للمصافحة الأولى مع النص لحظة الكتابة وهل تعرف نفسك من خلال القصيدة؟
الدخولُ إلى القصيدة عبورٌ إلى الفطرة الأولى وتحرُّرٌ من الكثافة والكثرة إلى الصفاء، والوَحدة ارتقاءٌ من ضجيج التفاصيل والحُجب إلى أمداء العين الباصرة الرائية التي تجمع بين الطفولة والحكمة ولاتتقيد بحدود ولاتحكمها إلا المحبةُ للقيم الكُلية.. الحقّ والخير والجمال.. إنها لحظةٌ تشبهُ الكهرَبةَ اللطيفة التي ترفع ستائر الزمكان وتفتحُ آفاق اللهفة والدهشة والحضور أمّا الرهبة فلأنّ الأمرَ يشبه الدخول في العبادات ومافيها من هيبةٍ وتَحفُّزٍ ومسؤوليّة رهبةُ الفاني إذ يُلامسُ الخالد الباقي.. وأعرف نفسي في القصيدة في أبهى وأكمل وألطف تجلياتها وأبعادها الإنسانية ومافوقها بلا حد..
أعرف نفسي في القصيدة.. في أكمل تجلياتها وأبعادها الإنسانية وما فوقها بلا حدود
* الشعر يحاول المرور بين متعاركات الحياة بكل أشكالها، فكيف تطرح القضايا عبر النص الشعري وماهي أهم مقومات نجاح القصيدة برأيك؟
القصيدةُ إعادةُ تشكيلٍ للواقع وقراءته وفق منظور كاتبها، والقضايا والمقولات التي تقدّمها القصيدة هي قضايا الإنسان في تأثُّره وتأثيره في الوجود الذاتيّ والاجتماعي والإنساني آلامه وآماله، فهي من لحمٍ ودم لكنها تُحاكي الوجود وضميره وتُطرَحُ عبر الإيحاء والرمز والصور التي تفتح نوافذ الأسئلة وتُشركُ القارئَ في مُلاحَقة ظلالها، والقصيدةُ الناجحة هي التي تصدر عن الصدق والوعي الجمالي من القلب إلى القلب.
* أي نوع من الشعر تفضله أكثر عن غيره، ومارأيك بقصيدة النثر وانتشارها السريع خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي؟
تقصدين الشكل الفنيّ للشعر؛ المهم أن يحضر الشعر روحاً ورؤىً وموهبةً أصيلة وتناغماً إبداعياً جميلاً قبل الأشكال والتصنيفات.. ومن الطبيعي أن تكون البداية مع الشعر الذي يُدعى الآن بالتقليدي والعمودي فقد تعلّق قلبي به منذُ الصِّغر وكتبتُه قبل أن أعرف الأوزان والبحور وفوجئتُ بعد أن تعلّمتُها أن ماكتبتُه كان موزوناً وبحكم اختصاصي الدراسيّ في اللغة العربية وتعلُّمها ثم تعليمها تعمّق هذا الوعي واتّسعت دلالاته.. ثمّ كتبتُ الشعر الحرّ أي التفعيلة وشدّني إليه مافيه من مرونة وتنوّع وتناغم مع خفقات الوجدان ومايمتلكه من إمكانيات فنيّة لم تُتَح لها الفرصةُ الكافيةُ للاكتمال حتى الآن برأيي رغم الكثير الذي كُتبَ على هذا الشكل الفنيّ.. أرى نفسي كشاعر بين العمودي والتفعيلة والقصيدة هي التي تفرض شكلها، وما سُمّيَ ب قصيدة النثر أو النثر الشعري أو الشعر النثري قضيّةٌ جدَليّة لايصل الجدال حولها إلى شيء أو كما يقول أدونيس جدال صبياني وأن مايجب التركيز عليه هو الإبداعية أي الخصوصية الفنيّة الخلاقة.. النثر نثر والشعر شعر ولكلٍّ أدواتُه وإمكاناته، وقد اقترحتُ من قبل على من يكتبون هذا اللون تسميته ب النثر الإبداعي أو النثر الجديد وأرى أن له مجالاً قابلاً للحياة وهو جنسٌ أدبيٌّ بذاته قد يتفوّقُ أحياناً على النثر والشعر معاً..
“عَمَّدَتْني بِخَمْرها الأَحزانُ
فَتَناغَتْ على فَمي الأَلحانُ
وأَضاءَ الحَنينُ روضةَ عُمري
ياسَميناً.. وبَرْعَمَ الأُقْحُوانُ
إِنَّهُ الحُزنُ يَغسلُ النَّفسَ حتّى
تتَماهى في خَفْقِها الأكوانُ
باسم محمد, [20/03/2024 11:58 ص]
كُلُّ جُرحٍ في خاطِرِ الوَردِ دامٍ
مِنْ عُروقي نَشيجُهُ الظَّمآنُ”
* هل الكتابة عالم مجهول، أم إنك تعتبر نفسك ضيفاً عليها أو العكس؟
الكتابة رحلةٌ في وجودٍ أكمل وأجمل من الوجود المادي وأنا حيٌّ بها ولستُ ضيفاً عليها فهي ليست شيئاً ثانوياً بل هي التعبير عن الوجود ذاته.
قصيدة النثر أو النثر الشعري لاتزال قضية جدلية ولايصل الجدال حولها إلى شيء
* لديك أربع مجموعات شعرية تناولت عناوين متفردة وكأن العنوان بوابة العبور للكتاب ولشد القارئ ماذا تحدثنا عن ذلك وكيفية اختيارك للعناوين؟
العنوان مفتاح للنصوص والمجموعات الشعرية، وعتبةٌ لها دلالتها واستراتيجيتها وليس مجرد كلام عفويّ ولولا خشيةُ الإطالة لفصلتُ في عناوين مجموعاتي.. أقول: إن العنوان اختزالٌ دلاليٌّ ذكيّ جامع مُكَثّف يحمل عندي أبعاداً إنسانية وجوديةً صوفيّةً في الأغلب.
بحور جديدة وعروض
* لديك مشروع مرتبط بعلم العروض والتجديد في البحور الشعرية ماذا تحدثنا عن ذلك؟
التجدُّدُ والتطوّر والحركة قَدَرُ كلّ حيّ والشعر كائنٌ حيٌّ يتطوّر ويتجدّد غير أنّ هناك فرقاً بين التجديد واستبدال الهويّة، وضياع المعايير الجمالية والهدم لأجل الهدم.. باختصار جرت عملية حرق المراحل في التجديد.. بحور الشعر العربيّ ليست نهائيّة والخليل بن أحمد الفراهيدي ومن تبعه كالأخفش الأوسط لم يحصروا الشعر في المعروف من الأنغام بل دعوا إلى متابعة الاكتشاف والاجتهاد فيها وعلى غرارها.. فكما أنّ الموسيقى لاحدود لها فكذلك يمكن استكشاف بحور ونُظم عروضية جديدة وفقَ دوائرَ وإيقاعات تعتمد الذائقة الجمالية مَرجعاً وتستطيع استيعاب عوالم من الشاعرية عميقة وواسعة، وهناك تجارب عديدة في هذا المجال أهمُّها برأيي جهود الشاعر والعروضيّ العراقي أنمار الجرّاح في بحوره واكتشافاته الكثيرة والمُتقَنة والمبدعة، وقد توصّلتُ إلى استخراج بعضٍ من البحور أو الأنغام الجديدة وكتبتُ قصائدَ كثيرة وفق إيقاعاتها.
* هل المشاركة في المهرجانات تخدم الشاعر أم مجرد لقاءات بين الأصدقاء تجمعهم القصيدة؟
المهرجانات واللقاءات والمسابقات يمكن أن تخدم إن توفّرت لها شروطها غير أن الذي أراهُ في الأغلب أنها لاتتعدّى كونها احتفاليات واستحسانات فردية وإعلامية ودعائية ولاتحقق غاياتها في الفائدة والغنى والمنافسة التي تدفع للاكتمال والنمو.
* النقد يهدف لإضاءة العمل الإبداعي وكونك تقدم دراسات نقدية هل النقد ينصف العمل الإبداعي؟
العنوان اختزال دلالي يحمل عندي أبعاداً إنسانية وجودية صوفية في الغالب
النقد فرديّ يُفتَرض أن يُنصفَ ويُغني ويُعزّز الجميل ويُشير إلى الخلل ويُبَشّرَ بالأفضل، وبرأيي أن النقد مُتأخِّرٌ عن الإبداع كثيراً ومُتأَثّرٌ في الغالب بالمناهج النقديّة الغربية ومُرَوِّجً لبضاعتها وهو نقدٌ يعجُّ بالمصطلحات الأجنبيّة والأحكام التي تُحَمِّلُ النصوص فوق ماتحتمل وقد ينحرف إلى المجاملات والإطراء، لكن لانُنكرُ وجود نقّاد حاذقين يصدرون عن أصالةٍ وأفق واسع وإنصاف ودراية ويلتفتون إلى تاريخ النقد عند العرب ولاينفصلون عن واقعهم الثقافي المعرفيّ.. لا أدري لماذا أشعر أحياناً أن القصيدة عربية وناقدها أجنبيّ؟! لا أظن في ذلك نجاحاً ولاعبقرية فكلّ لغة لها روحُها وخصوصيّتها.
* هل تعتبر القصيدة مرآةً عاكسة وحواراً بينك وبينها من خلال مايسكن ذاتك؟
القصيدةُ مرآةٌ أجل، لكنها لاتعكسُ الواقع كما هو فقط بل تعكسُ إمكانيات هذا الواقع وتستشرف آفاقه، وبالتأكيد القصيدةُ تُحاورني وأحاورها وتقترحُ عليّ وأقترحُ عليها ونخلص إلى سلامٍ وانسجام في مقولةٍ مُنَغَّمة جميلة قابلةٍ للبقاءبحُكم كينونتها الإبداعية الجمالية.
* كيف تتجلى صورة المرأة في قصائدك؟
المرأةُ حاضرةٌ في قصيدتي كمُلهِمة وحاضِنة لأبعاد إنسانية واجتماعية ووطنية وصوفيّة كالجمال والعطاء والإيثار والارتقاء والخصوبة.. حاضِرَةٌ في دفء الأساطير ورحمة الأمومة وجمال المحبوبة وتَجلّيات الفرح والتوق إلى الاكتمال والخلاص.