يرزح تحت أطنان من الرؤى والأوجاع والتجارب الحياتية.. الشاعر والمترجم أحمد م أحمد: الجرح السوري شطرني من الداخل وقتلَ لديّ بقايا الحلم والأمل
حوار: ثناء عليان:
تحفل تجربة الشاعر والمترجم أحمد م أحمد بالثراء على مستوى القصة والشعر والترجمة، حيث بدأ رحلته مع الأدب بكتابة القصة التي هجرها باكراً بعد صدور مجموعته القصصية اليتيمة “جمجمة الوقت”، ليكتب الشعر فأصدر ثلاثة دواوين شعرية “أحرق سفنه إلّا نعشاً”، و” الطريق إلى الموت تعج بالأحياء الخطرين” و”أصيد طائر كوليريدج”، أما علاقته بالترجمة فقد بدأت أواخر الثمانينيات عندما كان طالباً في السنة الثانية من دراسته للأدب الإنكليزي، وفي رصيده أكثر من ثلاثين كتاباً مترجماً سواء في الشعر أو القصة أو الراوية، يملك أيضاً دار أرواد للنشر في طرطوس التي تمّت فيها طباعة أكثر من 1300 كتاب.. عن تجربته الغنية والحافلة بالإبداع كان لـ(تشرين) هذا الحوار:
الجرح السوري
* أحمد م أحمد كيف يقدم نفسه للقارئ؟
باختصار؛ لا أعرفني بما يكفي لأن أقول أكثر من أنني مشتَّت، نصف مثقف، نصف موهوب، ربع قارئ، وفاقد للأمل بالمعنى الوجودي إلى مدىً لا أعرف أبعاده، أعمّر بنياناً شاهقاً سرعان ما أملّ منه وأعجز عن إكماله، فأطيح به بركلة واحدة، وللأبد، كما فعلتُ في النشر والكتابة والرسم، وها أنا أفعل الأمر ذاته في الترجمة.
أحبّ الأمكنة الأولى وأكره السفر، كما أهرب من التسميات والأحكام الضيقة، و(الأصدقاء) الضيقين، اللاعبين، محدوديّ الأفق، ولا أركن على حال.. ثم جاء الجرح السوري فشطرني من الداخل إلى تسعة أنصاف على الأقل وقتلَ لديّ بقايا الحلم والأمل.
لا أعترف بالتجنيس وأكتب ما يشبهني في مختلف حالاتي وتحوُّلاتي
* بدأت مسيرتك الأدبية مع القصة من خلال مجموعتك القصصية اليتيمة “جمجمة الوقت”، وتحولت لكتابة الشعر، ما الذي أغراك لهجر القصة وكتابة الشعر؟
قلتُ أكثر من مرة إني لا أعترف بالتجنيس في الأدب؛ وهذا “اللا تجنيس” يشبهني، وأنا أكتب ما يشبهني في مختلف حالاتي وتحوُّلاتي، وبما أني مزاجي، وربما ثنائي القطب، أترك الدخيلة تسير على هواها، لتأتي بنصّ يعكس هذه التلوّنات ضمن نصٍّ مختلف عن سابقه في مضمونه وشكله، وأضيف بأنّ قصصي القصيرة تحفل بالفلتات الشعرية والإيغال بالجزالة، بل إن أحد الأصدقاء نبّهني إلى أنني “مشيتُ على التفعيلة” في بعض مقاطع القصص، ولاحقاً، حفلت نصوصي (التي تسمّينها شعراً) بمقاطعَ سردية تقارب القَصَّ.
باختصار؛ كانت القصة (صناعة) ترصِّعها العفوية، ثم جاءتْ الحرب السورية، ليجعلني جرحُها النازف، وجروحي الشخصيّة، أكثر حاجةً للتكثيف واستعداداً لأن ألتفتَ إلى انعكاسات الخارجِ في داخلي، فكان (النصُّ النثري) العفوي، الخالي من أيّ شكل فني مصنّعٍ ومشغولٍ عليه.
شخص متشائم
* تقول في أحد الحوارات، “نصحني الكاتب المسرحي سعد الله ونوس بعد أن قرأ بعضاً من قصصي بالتوجه إلى القصة الساخرة، لكنني لم أُفلح في ذلك”، لماذا لم تفلح؟ بالرغم من أنك تملك أسلوباً ساخراً وهذا ما لمسناه من خلال ما تنثره على صفحتك على الفيسبوك؟
قصصي القصيرة تحفل بالفلتات الشعرية والإيغال بالجزالة
في ذلك الحين، قال المعلم سعد الله ونوس “إنّ الأدب السوري يفتقر إلى القصة الساخرة، ولديك يا أحمد نَفس سخرية في قصصك….”. كان سعد الله ونوس على حقّ، لولا أنها سخرية سوداء، ولولا أنني من الداخل شخص متشائم يرزح تحت أطنان من الرؤى والأوجاع والتجارب الحياتية والمعرفة الفطرية التي تكشف زيف العالم بأكمله، الذي شكّلَ لديّ نزوعاً إلى اللون القاتم. في أكثر من مناسبة، أثناء دراستنا الجامعية، حدث أننا ضحكنا، صديقاي و. حيدر وي. مقصود وأنا، ثم أجهشنا في بكاء مرير لأننا ضحكنا. نعم، كان يبكينا الضحك أحياناً. وأرجو عدم حذف هذين القوسين مع النقاط بينهما (…….).
أما منشورات الفيسبوك الساخرة فهي بدورها سخريات سوداء، وفسحة لـ (فشّة الخِلْق) الدفاعية الحرة التي تقي المرءَ من (الموت فقعاً). لكن، من بين هذه (الفشّات)، كانت هناك سلسلة نصوص طويلة كُتبت بسرعة وحملت عنوان (نشوة الرمل)، وهذه النشوات، رغم أنها حفلت بالمفردات العامية، جذبت انتباه القراء العرب، وحتى المغاربة، وعلّق على إحداها صديقي الشاعر والمترجم الكبير د. عاشور الطويبي قائلاً: لا تستهن يا أحمد بهذه النصوص، وأعرف أنك قادر على أن تؤلّف فيما بينها وتجعل منها رواية لا تُنسى. والكلام ذاته قاله خالد حليفة عشرات المرات.
ترجمة حقول الفكر يجب أن تتم على أيدي المتخصصين
إغلاق للأبد
* باعتبارك مترجماً، هل يمكن للمترجم أن يترجم كل شيء؟ أم إن التخصص في الترجمة مطلوب؟
أرى أن التخصص مطلوب، فترجمة الشعر لن ينجح بها إلّا الشاعر، وترجمة الرواية سيبلي فيها الروائي بلاءً حسناً، وترجمة حقول الفكر يجب أن تتم على أيدي المتخصصين في كلٍّ من هذه الحقول، ربما أستثني نفسي، أنا مترجم الشعر أصلاً، وأترجم الدراسات الأنثروبولوجية والميثولوجية لأنني قارئ نهم وشغوف بهذين الحقلين، وبالتأكيد سأفشل في ترجمة كتاب في الألسنية لنعوم تشومسكي، أو كتاباً لإدوارد سعيد، أو في الرياضيات والعلوم التخصصية..
* في كل مهنة هناك أخلاقيات خاصة بها، ما هي أخلاقيات الترجمة من وجهة نظرك؟
أوجز الجواب بالقول: إنّ على كل مترجم أن يبذل أقصى جهده، ولو كان هذا الجهد يقارب جهدَ المؤلف، وأن يعتذر عن قبول ترجمة كتاب يفوق إمكاناته، وقد فعلتُ ذلك أكثر من مرة. وأما مسألة الدقة والأمانة، وأيضاً، بعض التصرف وضمن شروط خاصة جداً، يُعدّان جزءاً من أخلاقيات الترجمة.
الترجمة إبداع.. إعادة خلق إنسان ليس بلسان آخر وحسب.. بل بطعمِ ومذاقِ وحساسيةِ ثقافةٍ أخرى
* هل الترجمة إبداع، أم هي مجرد عمل مكتبي يقوم به أشخاص عاديون بعد اطلاعهم على لغتين؟
بكل تأكيد، الترجمة إبداع، إعادة خلق إنسان ليس بلسان آخر وحسب، بل بطعمِ ومذاقِ وحساسيةِ ثقافةٍ أخرى. أي، ترجمْ الكتابَ وعِشْه وأنت تتخيل أن المؤلِّفَ يكتبه بلغتك.
* هل من عمل أدبي كنت تتمنى أن تترجمه، ولكن سبقك إليه مترجم آخر؟
نعم، هناك ملاحم شعرية كُتبتْ وربما تُرجمت، قبل أن أولَد، مثل الملاحم الرومانتيكية العظيمة. وأيضاً بعض روايات فوكنر.
بوابة العالمية
* من الملاحظ أنّ معظم العرب الذين ترجموا عن الأدب الأمريكي أو غيره كان دائماً باتجاه واحد، أي من الإنكليزية إلى العربية فقط، ولم نجد أحداً من العرب قد ترجم بالاتجاه المعاكس والأمثلة كثيرة لماذا برأيك؟
** هذا السؤال يحتاج إلى دراسة مطوّلة، من عناوينها أن أميركا لا تمتلك القوة والهيمنة العسكرية والاقتصادية فقط، بل تفرض ثقافتها عموماً على الشعوب.
جزءٌ كبيرٌ من الشعر والرواية الأمريكيين لا يستحق القراءة
أولاً: سأردد هنا ما أقوله في الجلسات الخاصة: إن جزءاً كبيراً من الشعر والرواية الأمريكيين لا يستحق القراءة، فما بالك بالترجمة! مع ذلك تترجم أوروبا العريقة هذه الأعمال إلى لغاتها، ويتأثر الكتّاب الأوروبيون بهذه الأعمال الرديئة فينتجون أردأ منها. يقرأ الكتّابُ العرب أعمالَ هؤلاء الأوروبيين ويحاولون تقليدها فتكون الأردأ على الإطلاق.
ثانياً: لو تُرجمَ كتاب (عالم- ثالثي) إلى كلِّ لغات الأرض فلن ينال حظه من الشهرة، فالإنكليزية (الأمريكية) تبقى بوابة الدخول إلى العالمية، وعملية الترجمة، ثم النشر، ثم قبول وتبنّي الكتاب هناك عمليةٌ معقدة تخضع لشروط مؤسساتٍ لا ترضى بأن تُدخل إلى ثقافتها إلّا ما يوافق أهواءها الاستشراقية الـمنمَّطة: الحجاب، اضطهاد المرأة، التقاليد الرثة، موالاة الأنظمة السياسية الموالية للغرب أو معارضة من يعارضه، الحريات الجنسية..!
وفي الختام: اكتبْ أثراً أدبياً مخالفاً لثقافتك الوطنية الخصوصية، ومجِّدْ الغرب، وانسَ أنّ أميركا تسرق 82% من نفط سورية على سبيل المثال، وأن فلسطين وأجزاءً أخرى لا تزال محتلة من بلادك، واعترف بـ”إسرائيل”، وادعُ إلى التحوّل الجنسي.. تُترجَمْ إلى الإنكليزية- مفتاح العالمية، وأعدك، بأن جائزة نوبل للآداب ستكون في جيبك في غضون سنة وثلاثة أشهر ونصف الشهر.