طقس بارد” لأنطون ميخايلوف.. يسرده على خواء سفحٍ ثلجي قرب غابة
تشرين- علي الرّاعي:
“طقس بارد” هكذا ببساطة يُعنون الأديب البلغاري أنطون ميخايلوف روايته التي لا يتجاوز عدد صفحاتها السبعين صفحة الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب بترجمة لعلي أحمد ناصر.. لدرجة تقول في نفسك، وأنت تُنهي قراءتها بساعاتٍ قليلة ربما لا تتجاوز الثلاث ساعات، وهل هذا النص؛ يُمكن أن نطلق عليه رواية، أم قصة قصيرة طالت قليلاً.. بل يُمكن أن تُصنفها حسب الفكرة التي تبني سردها عليها، إنها ليست أكثر من شواغل قصة قصيرة جداً..
غير أنكَ، وأنت تنهي قراءة هذه الرواية ذات العنوان المُباشر “طقسٌ بارد”، وتلك الفكرة البسيطة، التي تقوم عليها، والتي يُمكن أن تكون شاهدت مُقاربات لها في عشرات الأفلام السينمائية، والمسلسلات التلفزيونية، وغيرها من الحكايات؛ ويُمكن قراءتها خلال مدة قد لا تتجاوز الثلاث ساعات؛ لابدّ ستسأل نفسك، وبكل ما تعنيه الدهشة: كيف استطاعت هذه الرواية أن تُمسك قارئها من تلابيبه، ولم تدعه يسهو ولو لدقائق بسيطة حتى وصوله إلى تلك النهاية الصادمة وغير المتوقعة، ومن ثمّ لينسف مُتلقيها كل ما ظنه لوهلةٍ من بساطة ومباشرة، فلا العنوان كان مُباشراً رغم كل ما يوحي به، ولا الفكرة التي بُني عليها سرد الرواية كانت عادية ومُباشرة، أو مكررة.. لأن كل ما تقدم ليس أكثر من مواربة، تبدو لعبة الروائي أنطون ميخايلوف الإبداعية وغوايته، ويبدو أنها شكلت لديه أسلوباً في كلِّ ما كتب، وفي قراءة لبعض عناوين نتاجه الإبداعي؛ نجده يسعى لاختيار مثل ما يوحي بهذه البساطة في العناوين مثل: “الفتى والكبير، الغرفة السابعة، سنة حارة، وصبيحة الأمس”..
حيث ينطلق ميخايلوف من هذه البساطة الخارجية، ليدخل في جوانيات شخصياته الروائية، ومن تلك الجوانيات التي يعتمل فيها من المشاعر الحارة والمتناقضة من قلق وحب وفرح وتوق وشغف، وغير ذلك من انفعالات، يسردها بلغةٍ وصفية وكأنه يصوّر بكاميرا تلاحقُ أحداثاً متسارعة، فميخايلوف لا يهوى الاستطرادات وتشتت الأحداث وتنوع الشخصيات إلّا بما يستثمره لخدمة الشخصية الرئيسة التي يسردها على الورق، مع كثافة الأحداث والتفاصيل التي تؤكد مشيئته الروائية.. هل هي غواية المؤلف فعلاً، أم أنها ترجمة علي أحمد ناصر الذي يبدو في ترجمته الأنيقة وقد وصل إلى روح اللغة البلغارية التي يكتب فيها ميخايلوف وعمقها، ومن ثم سكبها في لبوسها العربي حيث بدت بكلِّ حميمية العربية بمجازاتها وتخييلاتها البديعة؟!
يحكي ميخايلوف عن “فراتف” حمّال الأخشاب في إحدى غابات قرى بلغاريا خلال مرحلتها “الاشتراكية”.. (فراتف) الذي يعيش ليومه فقط، من دون تفكيرٍ بغدٍ، صاحب روح وثّابة لا تهدأ على سكون أو استقرار، تعرّف بمصادفاتٍ بحتة على نساءٍ ثلاث، كل ما يتذكره، أنه ترك زوجته الأولى حاملاً، ثم ليجد نفسه بعد ما يُقارب العشرين عاماً وجهاً لوجه مع ابنته التي يفترض أنها كانت ثمرة ذلك الحمل في حانة.. هو كان هارباً من روتين عامل، وهي كانت تعمل نادلة في تلك الحانة تُحضّر لزفافها، وهي تسرد حكاية أب هجر أمها من دون أن يسأل عن مصيرهما طوال تلك السنين..
تلك الفتاة التي وجد أنّ دماءه تجري حارة في شرايينها، أو ما ظنه كذلك، فطول سرد الرواية ليس ثمة ما يقطع الشك باليقين أنها ابنته فعلاً، وهو ما يُخرج الحكاية عن عاديتها.. وإنما هي تسرد قصصاً تتطابق لما عاشه هو.. ملامح وجدها وقد رُسمت من هيئة الابنة الخارجية التي تتماثل مع ملامحه حدّ التطابق، ذلك ما سيُفجر في داخله “أبوّة حارة” ومتوثبة تماماً كما هذه الريح الباردة التي تنهش وجهه كيفما اتجه في هذه القرية الغافية بين جبالٍ خضراء هادئة صديقة بياضٍ صقيعي لا يعرف نهاية لانهماره وتجمدّه.. (فراتف) الذي يعيش الهلع، تماماً كالهلع الذي يُحرّك هذه الغابة، ويجعلها تلين.. هذا الرجل الذي يكتشف فجأة؛ أنه لم يكن يوماً يحب الفوضى، وهو غير ما توحي به حياته بشكلها الخارجي الذي يوحي بالعبث والعدمية، ففي لحظةٍ لا تفسير لها، يشعر بأبوّة جارفة تأخذ بكيانه كزوبعة على سفحٍ جليدي؛ يكتشف أنه يعشق أن يعيش دائماً بنقاء مع كلِّ ما يُحيطُ به، وها هو ما يجعله يرتبك مع هذا الاكتشاف: “نعم، يجب أن أهدأ – كرر هذا لنفسه هامساً – الوقت تأخر”.. وضع كفيه المتجمدتين في جيبي سترته القطنية، وعادَ راجعاً.. الأرض قاسية وخشنة، وكثيراً ما تعثر عليها.. هل هذا الوصف للطبيعة من حوله، أم هي حقيقة روحه التي أمست ظامئة، مع إنّ كأس الماء بجوار أنفاسه.. كيف سيخبرها أنه والدها الذي سيعمل المستحيل ليقدم لها هدية بمناسبة زفافها، وليشعر لأول مرة في حياته أنه أب، وكان فقد أي أملٍ بولد تجري دماؤه في عروقه، والنساء اللواتي تعرّف إليهن أمست حالة الإنجاب خلفهن.. كاد يجن من صاحب الحانة الذي تقمص دوره وهو يجمع لها الهدايا..
(فراتف) الذي لم يكن ليفكر في لحظةٍ ما، من حياته قبل الآن أن يكون أباً، ترك زوجته الأولى التي اغتصبها في خلوةٍ ما، فأصرت عليه أن يتزوجها، وإلّا مصيره السجن، لكنه لن يطول الوقت ليهجرها وهي حامل، ومن ثمّ ليمسحها من ذاكرته وكأنها لم تكن موجودة يوماً، ثم ليتعرف إلى امرأةٍ ثانية سرعان هي الأخرى ما تهجره مع رجلٍ تافه، وبعد ذلك لتمتطيه أرملة خشنة وقاسية كما هذه الأرض التي لا يبرحها الثلج.. كلُّ ذلك التيه يعيشه:: و(فراتف) في كلِّ تفاصيل حياته المملة التي جعلته هذه الأرملة يسكن إليها لظنه أن طريق الترحال قد وصل لخواتيمه، وما عليه إلّا أن يُسجل ما بقي له من أيام يُفترض أن يتحضر لعيشها بهدوء.. ثم فجأة تظهرُ ابنته وهي تستعد للزواج، وتزيل عن روحه كلَّ تلك السماكة من القسوة والخواء.. روحه التي تصيرُ أخفَّ من ريشة، أخفَّ من ريشة لدرجة ستطير إلى لا نهاية، أو قل تشبه ما ينسل من ماءٍ شحيح عن هذا الثلج المتجمد مع كلِّ موجة دفءٍ تحدثها شمسٌ خجولةً تطلعُ من بين الضباب كلَّ حين..
شعر (فراتف) بالقلق حول كيفية تمنياته لـ(فيلا – ابنته) بحياةٍ سعيدةٍ وفرحة، وكيف سيُهديها القطعة الذهبية التي سرقها من زوجته، وقد سُدت كلُّ السبل لإيجاد مبلغٍ من المال يشتري من خلاله هديه تليق بأب وابنته.. وعندما ذهب العروسان في موكبٍ من السيارات لعقد القران في كنيسة قريةٍ مجاورة لم يستطع الانتظار كما الآخرون في كراج الشحنات الذي أعدّ كمكان لإقامة حفل الزفاف..
وقف ينتظر الموكب على تلةٍ صغيرة قرب غابةٍ خارج القرية، وهو يتلمس هديته المسروقة، ببساطة لأنه ظنَّ أنه حينما يجدونه وحيداً على الطريق سيوقفون سيارات الموكب ويأخذونه معهم، حينذاك سيتقدم من العروسين ويقول:” أرجو لكما كلَّ شيءٍ رائع، ولتلدا أطفالاً كثيرين..” غير أن ذلك الحلم سرعان ما سيتبعثر كذوبان ثلج هذه التلة عندما يعبرهُ الموكب من دون أن ينتبه إليه أحد.. حينها سيتدفق في رأسه طيفٌ أسود ثقيل، وعكر “تجمعت واختلطت جميع الأفكار والظنون..” أحسّ بألمٍ شديد في راحة كفه اليمنى، فتح قبضته، كانت القطعة الذهبية لاتزال مطوية في كفه المتعرقة..
“غضب لأجل حياته الخاوية والمحطمة، فرمى القطعة الذهبية في خندقٍ مجاور للطريق، وهام على وجهه إلى مكانٍ ما..”زفر بحزن وهو متوجهٌ عبر السفح الموحل، وهو يشعر بعطشٍ قاتلٍ للنبيذ.. بهذه الهيئة الصادمة يختم أنطون ميخايلوف “طقس بارد” طقس بارد.. بارد جداً وعلى غير ما كان متوقع..
الكتاب: طقس بارد – رواية
الكاتب: أنطون ميخايلوف
ترجمة: علي أحمد ناصر
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب