كيف تسقط اللغة صاحبةُ القواعد الصارمة الواضحة في مكان ما، أثناء استخدامها؟ ولماذا يُكرَّس هذا السقوط بوصفِ “الخطأ الشائع”؟ بمعنى أنه يتكرر حتى يزاحم الصواب قبل أن يجد باحثاً يشير إليه ويفنّده (أحسب أنّ اللغة العربية من دون لغات الشعوب هي الأكثر عُرضةً لمثل هذا الانزياح عن صوابها الأصلي بسبب غناها وحيويّتها وخصوصيتها في ثراء المفردات وطرائق الصرف والإعراب، ثم المتعاملين معها من أبنائها وغير أبنائها)!
حين تكاثرت وسائلُ الإعلام العربية المطبوعة والشفوية كان لابدَّ أن تكون محمولةً على “استهلاك” اللغة بلا حدود لتصل إلى جمهورٍ، هو الآخر بلا حدود، حيث المتعلّمون وأنصاف المتعلمين والأميون، ومن سمات اللغة العربية الفصحى أنها مفهومة لدى أهلها، أيّاً كان مستواهم التعليمي!
في الإعلام بات التساهلُ في الأخطاء الشائعة استخفافاً باللغة الأم لأنه ما لبث أن تسرّب إلى خرّيجي الجامعات (حيث بدأت الحدود تزول بين الإعلام والثقافة) وصارت الأبحاث تطلب مصححاً ومدقّقاً لغوياً، مثلُها مثل مقالات الصحفيين، أما أن يُقبلَ كاتبٌ إلى عالم الأدب والإبداع ونصُّه يعاني من “خروم” هذه الأخطاء فهي مسألة تقتضي “التشدُّدَ” المحمود لأن الإبداعَ في أول خطاه، يجب ألّا يتخطّى صوابَ رسم إطاره الذي يعني الاحتفاءَ باللغة مفرداتٍ وصياغةً ونحواً وصرفاً، فكيف إذا تدنت اللغةُ إلى ما دونَ “الأخطاء الشائعة” ووقعت في الأخطاء المتعلقة بالعدد والمعدود والمثنى (حيث نرى فواجع استخدامه ومعاملته أسوأ معاملة) والممنوع من الصرف واستخدام حروف الجر! حيث تنتفي المعرفة ويبدو فقرُ المعلومات والقفز فوق المراحل التي يتطلبها الإبداع و لا تغفره المعاني مهما تشاطر الكاتب في تزويقها!
يقع “الناقد” في “حيصَ، بيصَ” كما يُقال، حين يتوجّب عليه تقييمُ نصوص الكتّاب المعاصرين حيث تتهافتُ اللغة إلى مستوى متدنٍّ والذريعةُ تكون: التبسيطَ تارةً، والمعاصَرة تارةً، والإبداعَ المتحللَ من الجمود، وهي ذرائعُ تتساقطُ أمام حقيقة فقر الدم المعرفيّ، وخيانة لغةٍ تتسم بالحيوية والغنى والإمكانات، وكلُّ نصٍّ مكتوب، يجب أن ينثر ذلك الجمال المضمَر في لغة جعلت من الشعر ديوان أمة حضارية عبر كلّ عصورها!
بسبب هذا “النكوص اللغوي” بات يُنظر إلى الناقد الذي يطالب ببدَهية سلامة لغة الكاتب وحفظِ جمالياتها، أنه من عصور الجمود والتشنّج الذي يحارب الحداثة، وهي نظرةٌ جائرة لأن علوم اللغة هي أبسط الوسائل التي يجب على “المبدع” أن يمسك ببعض أطرافها قبل أن يتحفنا بإبداعه، وأين تظهر الجماليات إلّا في الصياغات الأدبية المعافاة شعراً وقصةً ورواية؟
نهلة سوسو
123 المشاركات